فصل: باب: الطلاق بالحساب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الطلاق بالحساب:

قال الشافعي: "ولو قال لها: أنت طالق واحدة في اثنتين... إلى آخره".
9117- إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن قال: نويت واحدةً مع اثنتين-والمرأة مدخول بها- وقعت الثلاث، لأن ما قاله محتمل، ونحن نوقع الطلاق بأدنى احتمال يبديه، وإن كنّا لا ندفع الطلاق بمثله، وكلمةُ (في) قد تستعمل بمعنى (مع) قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأعراف: 38] أي (مع) أمم.
وإن أراد جعل الطلقتين ظرفاً، ورأى الواقع واحداً هو المقصود بالوقوع، فهذا مقبول منه؛ فإن (في) معناه الظاهر إفادة الظرف، والإشعار به، ثم الذي في الظرف يخالف الظرف.
وإن أراد به الحساب-وكان عالماً به- حُمل لفظه على الحساب، ووقع ثنتان.
وإن أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد شيئاً، فقد ذكر القاضي وغيرُه من المحققين قولين:
أحدهما: أنه محمول على الحساب، فيقع ثنتان.
والثاني: أنه لا يقع إلا واحدة؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف، ولا مزيد على المستيقن، وهو طلقة واحدة، وما زاد مشكوك فيه، وقرّبوا هذين القولين من قول الزوج لامرأته المدخول بها: أنت طالق طالق طالق، إذا زعم أنه أطلق لفظه، ولم يَعْنِ تأكيداً ولا تجريداً.
وهذا في عالمٍ بعبارة الحساب يزعم أنه أطلق لفظه، ولم يخطُر له معنى.
وفي بعض التصانيف ذِكْرُ قول ثالث، وهو أنه يقع ثلاث طلقات وذكره شيخنا، وهو بعيدٌ، ووجهه على بعده أنه يعرض لثلاث طلقات مع صلةٍ والأصلُ وقوع العدد الذي تلفظ به.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان عالماً بمراد الحُسّاب بمثل هذه اللفظة.
9118- فإن كان جاهلاً بمراد الحُسّاب، وقد أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون أنه لا يقع إلا واحدة إذا زعم أنه لم يكن له قصد. وينقدح عندنا خروج القول الذي حكيناه عن بعض التصانيف في إيقاع الثلاث، نظراً إلى التلفظ بها، ولكنني لست أثق بهذا القول.
ولو قال مُطلِق هذا اللفظ-وهو جاهل بالحساب وعبارةِ أهله-: أردت بهذا اللفظ ما يعنيه الحُسّاب، ولست عالماً به، ففيما يقع والأمر كذلك وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يقع ما يقتضيه الحساب، فإنه قصد الطلاق، وربط العدد بمقصودهم، فيقع الطلاق ويراجع الحُسّاب في مقصودهم، وهو كما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فامرأته طالق، فليس هو على علم بموقع الطلاق في الحال، ولكن إذا تبينا تحقق الصفة، حكمنا بوقوع الطلاق تبيّناً.
والوجه الثاني- أنه لا يقع إلا واحدة؛ فإنه لم يفهم معنى اللفظ، والنياتُ لا تثبت على الإبهام، وإنما تثبت على التحقيق والتفصيل، ولا خلاف أن الأعجمي إذا نطق بالطلاق بلغة العرب، ونوى معناه عند أهله، ولم يفهمه عند إطلاق اللفظ، ثم وضح له معناه، لم يقع الطلاق باتفاق الأصحاب، وليس هذا كما لو علّق الطلاق على صفةٍ هو جاهل بها فإن قصده إلى الطلاق ثابت ومتعلّقه مشكل، فيبحث عنه، ومعظم التعليقات كذلك تقع.
ويخرّج عندنا على هذا الخلاف أن يقول القائل: طلقت فلانة مثل ما طلق فلان زوجته، وكان لا يدري أنه طلق زوجته واحدة أو أكثر، فيقع الواحدة، وفي الزيادة الخلافُ الذي ذكرناه.
9119- وهذا أصلٌ، فلتسند إليه مسائله، وحاصله أن من لفظ ولم يدر أصلَ معنى الطلاق، ثم بُيّن له أنّ معناه الطلاق، فلا خلاف أنه لا يقع الطلاق، وإن علق الطلاق على مبهمٍ تعّلق به.
وإن قصد أصلَ الطلاق، وأبهم فيما زعم قصدَه في العدد وأحالَه على قول الغير، فهذا موضع التردد.
9120- ثم قال الشافعي: "ولو قال: أنت طالق واحدة لا تقع عليك فهي
واحدة تقع".
والأمر على ما ذَكَر، فإنه أتى بالطلاق، ثم أتى بما يدفعه على وجهٍ لا ينظم ذو الجدّ مثلَه، فكان بمثابة ما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وسنعيد هذا في أصل الاستثناء، ونجمع من هذا الجنس محلّ الوفاق والخلاف.
فصل:
قال: "وإن قال: واحدة قبلها واحدة، كانت طلقتين... إلى آخره".
9121- إذا قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين على الترتب، فيلحقها واحدة بقوله الأول، والثانيةُ بقوله الآخر.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، فالمذهب المبتوت أن الثلاث تقع عند الفراغ من قوله: ثلاثاً.
ومن أصحابنا من يقول: إذا فرغ عن قوله: ثلاثاًً، تبيّنا وقوعَ الثلاث بقوله: أنت طالق.
وهذا الخلاف مأخوذ ممّا إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فماتت، ثم قال: ثلاثاً، فمن قال ثَمَّ: لا يقع شيء، فيقول في سلامة الحال: يقع الثلاث عند قوله ثلاثاًً.
ومن قال ثَمَّ: يقع الثلاث، يقول في سلامة الحال: يقع الثلاث بفراغه من قوله: أنت طالق.
ومن قال ثَمَّ: إذا ماتت المرأة، وقعت طلقة بقوله: "طالق" في حياتها، فيلزمه على هذا المساق أن يقول: يقع طلقة بقوله طالق، ويتم الثلاث بقوله ثلاثاًً.
هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب، وهو ساقط عندنا؛ فالوجه القطع بأن الثلاث تقع مع الفراغ من الكلام؛ إذ لا خلاف أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً، طلقت ثلاثاً، ولو كانت تطلق واحدة بقوله أنت طالق، لبانت ثم لا يلحقها غير الواحدة.
ومن لطيف الكلام في هذا أنه إذا أنشأ قولَه: أنت طالق، وعزم على أن يقول ثلاثاًً، فهذا ليس يطبِّق قصدَ الثلاث ونيّتَها على قوله طالق؛ فإنه بنى كلامه على أن يصرّح ويعوّل على ذكر الثلاث، فلا معنى للمصير إلى أنه في حكم من يقول: أنت طالق وينوي الثلاث، ولكن إن تمّ اللفظ واتَّسق على ما أراد، فالتعويل على اللفظ.
والوجه القطع بوقوع الثلاث مع الفراغ من اللفظ، وإن طرأ ما يمنع نفوذ الطلاق كالموت في المخاطبة، فيثور الإشكال الآن؛ فإن تعطيل لفظه، وقد أتى بما يستقل ويفيد في حالة الحياة محال، فاضطرب رأي الأصحاب عند طريان ما وصفنا، فمن طرد القياس الذي قدمنا صائر إلى أن بعض اللفظ إذا وقع بعد الموت، لغا كلُّه، وهذا وهم، والمصير إلى وقوع الثلاث وهمٌ، والأقرب ألا يعطَّل ويُكتفى بموجب اللفظ المصادف للحياة.
وينتظم من هذا أنه إذا أنشأ الطلاق على أن يفسّره، فالأمر فيه موقوف؛ فإن انتظم اللفظ من غير مانع، قطعنا بوقوع الكل مع آخر اللفظ، وإن طرأ مانع، فعند ذلك يضطرب الرأي، كما نبهنا عليه.
9122- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فلا يلحقها إلا الطلقة الأولى. ولو قال: أنت طالق ثنتين، أو قال: أنت طالق ثلاثاًً، فيلحقها العدد المفسِّر إجماعاً.
9123- ولو قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقةٌ، أو أنت طالق طلقةً بعد طلقةٍ، فيلحقها طلقتان؛ فإنه وإن رتّب لفظه وجاء بالطلقتين في صيغتين، فالمدخول بها تحتمل الطلقات المتتابعات.
9124- ثم إذا لحقها طلقتان، فلا خلاف أنهما يقعان في زمانين؛ فإنه مصرّح بإيقاعهما كذلك، وذكر العراقيون وجهين في كيفية وقوع الطلقتين بهاتين الصيغتين بعد القطع بوقوعهما في زمانين: أحد الوجهين- أنه يتنجّز طلقةً، ويستبين وقوع طلقة قبلها.
والثاني: أن المُوقَع المنجَّز يتنجّز ويعقبه طلقة أخرى.
وقد ذكر القاضي الوجهين على هذا النسق.
وهذا مضطرب عندي، فإنا ننظر إلى الطلاق المنجَّز، فإن قدّرنا وقوع طلقة قبله على معنى أنها تتقدم على لفظ المطلِّق، فهذا من المحالات؛ فإن الطلاق لا يتقدم وقوعه على لفظ المطلِّق، وإن نظرنا إلى الطلاق الموقَع، وقلنا: يقع بعد طلاق آخر، فهذا أحد الوجهين الذي لا يفهم غيره في الإمكان والوقوع.
ولكن يسوغ للقائل الأول أن يقول: إذا قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فلا يقع ما في ضمن قوله: أنت طالق طلقة، حتى يقدُمه طلاق، وهذا الطلاق الذي يتقدّم يقع أيضاًً بعد اللفظ، وكأن المعنى: أنت طالق طلقة من قبلها طلقة تقع، فهذا يزيل الخبط والاضطراب، ويقطع توهم الغلط.
فإذا انتظم الوجهان، فتمام المراد أنه لو أراد بقوله: قبلها طلقة إسناد الطلاق إلى ما قبل تلفّظه، فيكون ذلك بمثابة قوله: أنت طالق الشهر الماضي، وقد قدمنا ما فيه من الأقسام، ويعترض في أقسام تلك المسألة أنه لو أراد الإيقاع في زمانٍ مضى، فهل يُحكم بالوقوع؟ فعلى وجهين. وفي هذه المسألة إن أراد بقوله: قبلها طلقة ما ذكرناه، فالكلام كالكلام المقدّم في الشهر الماضي، وإنما قطع الأصحاب بوقوع الطلقتين من غير إعادة تلك الأقسام، لبنائهم المسألة على ترتيب الطلقتين بعد اللفظ، ولا ينتظم والمسألة هكذا إلا مع تأخير وقوع مضمون قوله: أنت طالق، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه دقيق المُدرك.
9125- ونعود بعده إلى إطلاق الوجهين، ونفرّع عليهما أمر التي لم يدخل الزوج بها.
فإذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعد طلقة، فكيف الوجه؟ لا خلاف أنه لا يلحقها طلقتان؛ فإن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها في زمانين، ولا يتصور أن يلحق بها طلاقان في زمانين؛ فإنها تبين بأولهما، ولكن تلحقها طلقة واحدة أم لا يلحقها شيء؟ هذا محل النظر.
قال القاضي: إن حكمنا بأن مضمون قوله: "طلقة" يقع، ثم يتبعه طلقة، فهذه يلحقها طلقة وهي الموقعة وتبين، ولا يلحقها ما بعدها.
وإن قلنا: يتأخّر مضمون قوله طلقة ويقدُمها طلقة بقوله: "قبلها طلقة". قال القاضي: على هذا لا تطلق هذه أصلاً، واعتلَّ بأن قال: لمَّا قال لها: "أنت طالقة قبلها"، فحاصل كلامه: أنت طالق طلقةً مسبوقة بطلقةٍ، ولا يتصور في غير المدخول بها طلقة مسبوقة بطلقةٍ، وإذا لم يقع الطلقة المعيّنة بقوله: "أنت طالق طلقة" لا تقع الطلقة السابقة تقديراً؛ فإن الأُولى شرطها أن تكون قبل ثانيةٍ، وإذا عسرت الثانية، فالتي يقدرها سابقة لا يقال فيها قبلها، فعسُر إيقاع الطلقتين، ودارت المسألة. وهذا على نهاية الحسن واللطف.
ثم في المسألة غائلة، وذلك أن القاضي قال: من ذهب مذهب ابن الحداد، وصار إلى أن الدَّور يمنع وقوع الطلاق، فالجواب ما ذكرناه، من امتناع وقوع الطلاق على التي لم يدخل بها بالعبارة التي ذكرناها.
ومن ذهب مذهب أبي زيد ولم يُدِر المسألة قال: تلحق المرأة طلقة واحدة، فإن القول بالدّور-على أصله- باطلٌ.
9126- وهذا كلام مختلّ؛ من جهة أن صورة الدّور: أن يقول لامرأته: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبل تطليقي إياكِ ثلاثاً". فإذا نجّز تطليقها، لم يقع شيء على رأي ابن الحداد ومعظم الأصحاب، وسببه أنه لو وقع ما نجز، لوقع قبله ثلاثاًً، ولو وقعت الثلاث، لامتنع وقوع ما نجّز.
ووجه قول أبي زيدٍ أن الشرط لا يقف على المشروط، بل المشروط يقف على الشرط، وما نجّزه شرط، فليقع، ثم ننظر في الجزاء وتيسره وتعسّره.
والمسألة التي نحن فيها ليست من هذا القبيل؛ فإنه ليس في لفظ المطلِّق شرطٌ ولا جزاء، نعم، فيها صفة وموصوف، وارتباط على هذا الحكم؛ فإن كانت الطلقة المقدّمة المعنيّة بقوله قبلها موصوفة بكونها سابقة، فلتقع لاحقة، وإن وقعت فردة، فليست سابقة، فهذا من باب تعذّر الصفة، ثم تتعذر المسبوقة تعذراً حقيقياً، إذ ليس من الممكن فرض طلقة مسبوقةٍ في التي لم يدخل بها إذا كان يوقعهما في قَرَن، فليس هذا مأخذ الدور، وإن كان يشابهه من طريق التعذر بالارتباط.
ولو صحّ هذا، لقال أبو زيد: لا يلحقها طلقة، وإن كان الشرط المنجّز عنده يقع في مسألة الدَّور.
9127- فالوجه وراء هذا أن نقول: إن أوقعنا مضمون قوله: أنت طالق أولاً، فهذه تلحقها طلقة، كما قدمنا، وإن رأينا في المدخول بها أن نوقع أولاً مضمون قوله قبلها، فيحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، وتوجيهه الصفة والموصوف.
ويحتمل- أن نقول: يقع طلقة؛ فإنه قصد توزيع طلقتين على زمانين، ولا يكون طلقة قط صِفة لطلقة، فعلى هذا يلحقها الأولى، وكأن هذه العبارة بمثابة قول القائل: أنت طالق طلقةً وطلقةً، فإذاً نُجْري الوجهين على أحد الوجهين ونوجههما بهذا، فأما الأخذ من قول ابن الحداد وقول أبي زيد، فلا وجه له.
ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، فاللفظان معناهما واحد، ولا حاجة بنا إلى تكلف بيان ذلك، فليتأمله الناظر، واستواء هذين اللفظين في معنيهما كاستواء اللفظين الأوّلين في معناهما.
فإذا خاطب بما ذكرناه امرأته المدخولَ بها، وقعت طلقتان. وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقةٍ، أو طلقة بعدها طلقة، فتلحقها طلقةٌ لا محالة؛ فإن الطلقة الموقعة أولى، وإذا كانت أولى؛ فإنها تقع. وقد يتمسك الفطن بهذا محتجاً لأحد الوجهين في المسألة الأولى، ويقول: إن صح مذهب الوصف والموصوف، وجب أن يقال: لا تقع الطلقة الأولى؛ فإنها لا تقبل الوصف باستعقاب أخرى، وإذا امتنع هذا، فقد زالت الصفة، فيزول الموصوف.
وقد ينقدح عن هذا جواب لا يخفى؛ فإن الرجل إذا قال لأمته: أول ولدٍ تلدينه، فهو حر، فإذا ولدت عن نكاح أو سفاح عَتَق، وإن لم تلد بعده، وستأتي هذه الألفاظ بمعانيها، إن شاء الله.
9128- ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة معها طلقة، أو مع طلقة، طلقت طلقتين واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما، فمنهم من قال: يقعان معاً؛ لأن كلمة مع للاقتران، والوفاءُ بمعنى لفظه، ممكن، فيجب الحكم بالإيقاع على نحو ما ذكره، ومعنى لفظه الجمع.
والوجه الثاني- أنه تقع طلقة وتعقبها طلقة أخرى؛ فإنه أتى بلفظتين ليست واحدة منهما تفسيراً للأخرى، وكل لفظة مستقلة، فليقع الطلاقان بهما في زمانيهما، وقد صدرا منه في زمانين، فليقع كلّ طلاق عند منقرض كل لفظ، وليس كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً؛ فإن آخر الكلام بيانُ الأول.
ويتّصل ببيان الوجهين أنا إذا قلنا: يقع الطلاقان في وقتين، فلا إشكال أنهما يترتبان، وإن قلنا: يقعان معاً، فلا يقع بقوله: "أنت طالق طلقة" شيء، حتى يتنجّز الفراغ من اللفظ الأخير، ويتنزل اللفظان منزلة قول القائل أنت طالق ثلاثاًً، وقد أوضحنا أنه إذا جرى هذا اللفظ، ولم يطرأ مانع، وقع الثلاث مع الفراغ من آخر الكلام.
9129- فإذا تبين هذا فرّعنا على الصورة التي ذكرناها مخاطبة المرأة التي لم يدخل بها بما ذكرناه، فإذا قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو قال: معها طلقة، فإن قلنا: في المدخول بها يلحقها طلاق واحد، ثمّ يعقبه طلاق، فإذا لم يكن مدخولاً بها، لحقها طلاق ولم تلحقها أخرى. وإذا قلنا في المدخول بها: إن الطلاقين يلحقانها على جمع واقتران، فنقول: يلحق غيرَ المدخول بها طلاقان، كما لو قال لها: أنت طالق طلقتين.
وقال أبو حنيفة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، أو بعد طلقة، تقع طلقتان.
وهذا يخالف جميعَ مسالكنا، وهو قول من لا يدري ولا يحيط بحقائق الألفاظ، فإن قوله: (قبلها) و (بعد) صريح في الترتيب والنصِّ على الزمانين. وقال: إذا قال لها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو بعدها طلقة وهي غير مدخول بها، لم يلحقها إلا طلقة واحدة.
فرع:
9130- إذا قال: أنت طالق طلقة تحت طلقة، أو قال: تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة، أو على طلقة، أو عليها طلقة. فقد قال الأئمة: هذا بمثابة ما لو قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة؛ فإن هذه الصلات تقتضي من الجمع ما يقتضيها (مع) فكان الجواب فيها كالجواب في (مع).
فرع:
9131- لو قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار، فكم يلحقها من الطلاق؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلحقها إلا طلقة واحدة؛ لأن المعلَّق بلفظ بمثابة المنجّز عند وجود الصفة، فكأنه قال لها عند الدخول: أنت طالق وطالق، ولو نجّز ذلك على هذا الوجه، لم يلحقها إلا واحدة.
والوجه الثاني- أنه يلحقها الطلاقان، فإن كل واحد منهما معلّق بالدخول، ولو فرضا في حق المدخول بها، لقيل وقعا معاً مع الدخول، أو على الترتيب، كما أشرنا إليه، وليس كما لو نجَّز فقال: أنت طالق وطالق، فإن كل لفظ مستقل بتنجيز الطلاق، ولا تعلّق لأحد اللفظين بالآخر. ونحن في الطلاق المعلق لا نقدّر تصحيح النطق بالطلاق عند وجود الصّفة؛ فإنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم جُنَّ، فدخلت الدار، وقع الطلاق، وإن لم يكن الزوج عند دخول الدار من أهل التطليق، فإذاً الطلاقان يتساوقان في الدخول، ويقعان على جمع.
وهذا فيما إذا قدّم الشرط وقال: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق.
فأما إذا أخّر الشرط، وقال: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار، فهذا رتّبه الأصحاب على ما لو قدّم الشرط. فإن قلنا هناك: يقع طلقتان فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يقع واحدة، فهاهنا وجهان، والأظهر وقوعهما؛ فإنه قدّم ذكر الطلاق، ثم ذكر الرابط من بعد، فكان مشبهاً بما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً.
وهذا الترتيب لا يتحصَّل عندنا والتعليق شرطٌ قدِّم أو أخِّر، والوقوع جزاء قدّم أو أخر، فلا يعتدّ بمثل هذا إلا من لا دُرْبَة له في نظم الكلام والعربيّة.
فصل:
قال: "وإن قال: رأسكِ أو شعرك... إلى آخره".
9132- إذا أضاف الطلاق إلى جزء يتصل بها اتصال خِلقة مثل أن يقول: رأسُكِ أو يدكِ، أو شعركِ طالق، فيقع الطلاق، ولو أضاف الطلاق إلى جنينها، لم يقع الطلاق، اتفق عليه نقلة المذهب.
ولو أضاف الطلاق إلى فضلات بدنها كالدمع، والريق، والبول، والعرق، وما في معناها، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه لا يقع؛ لأن هذه الأجزاء لا يلحقها الحلّ والحرمة، وليست متَّصلة بها اتصال خلقة؛ فإن قيل: ما الفرق بين هذه الأشياء وبين الجنين، والجنين متكون من فضلة منها؟ قلنا: ولكن له حكم الاستقلال والانفصال.
وإذا قال: روحك طالق، وقع الطلاق؛ فإنه يعبَّر به عن الجملة، وكأنه الأصل المقوِّم، وما عداه فرع.
وإذا قال: دمك طالق، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بوقوع الطلاق؛ فإن الدم في معنى الروح؛ إذ به قوام البدن، وليس من الفضلات التي تنفضها الطبيعة، كالبول وما في معناه.
ومنهم من قال نُجري الوجهين في الدم؛ لأنه غير متصل اتصال التحام والتئام وليس الروح المقوِّم بمثابة الفضلات، ثم البدن لا يخلو عن الفضلات وتنفض الطبيعة بعضها، والدم كذلك.
ولو قال للمرأة: لبنك طالق، أو قال: منيّك طالق، قال الأصحاب: اللبن كالرجيع والبول، فإنه يُنْتَفَض لا محالة، بخلاف الدّم القارّ في العروق. وإذا قال: منيك طالق، فهو في معنى اللبن؛ فإن ما يصير منيّاً يُنْتَفَض ومادته الدّم، وما دام دماً لا يكون منيّاً.
ولو أضاف الطلاق إلى صفة من الصفات التي ليست من الأجزاء كالحُسن، والقبح، واللون، لم يقع الطلاق.
ولو قال: سِمَنُك طالق، فالسِّمَن جزء من أجزائها ملتحم بها.
ولو قال: شحمك طالق، والشحم على الثَّرْب كالشيء الجامد، ولا التحام له، ولا روح فيه وإذا اندلقت حشوةُ الإنسان من الجرح فيُبَان الشحم منه ولا يألم، فهذا فيه ضرب من التردد، وليس عندنا مذهبٌ ننقله.
ولو قال: حياتك طالق والحياة صفة، فالأشبه أنها بمعنى الروح، ولا يختبطن الفقيه في الروح والحياة، فيقع فيما لا يعنيه.
9133- ولو أبينت أذنها فالصقتها بحرارة الدم والتحمت-إن أمكن ذلك وتُصوّر- فلو أضاف الطلاق إلى هذه الأذن الملتحمة، ففي وقوع الطلاق وجهان:
أحدهما: أنه يقع للاتصال الحقيقي من جهة الخلقة.
والوجه الثاني- أنه لا يقع؛ لأنها مستحقة الإبانة والفصل لأجل الصلاة، فكأنها كالمبانة، وحكمها حكم الجماد والميتة، وهذه المسألة صوّرها الفقهاء وبنَوْا الحكم على اعتقاد تصوّرها، وهي ليست متصوَّرة، فإن ما أبين وفصل لا يلتحم قط في طرد العادة، وقد يبان البعض فيلتحم ما أبين، ومثل هذا لو أضيف الطلاق إليه وبعضه مبانٌ غير ملتحم، فالطلاق يقع مع انقطاع البعض قبل التحامه.
ولو أضاف إلى الأخلاط المنسلكة في البدن كالبلغم والمِرّتين فسبيل الإضافة إليها كسبيل الإضافة إلى فضلات البدن، وليس كالدّم؛ فإن به قوام البدن، وهو مادة خَلَف ما ينحل من الإنسان.
9134- ومن بقية الكلام في هذا الفصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء منفصلٍ أو إلى جزء شائع، وحكمنا بوقوع الطلاق، فللأصحاب اختلاف مشهور في تقدير ذلك، فمنهم من قال: يصادف الطلاق الجزء المعيّن، أو الشائع، ثم يسري منه ويستوعب، كما يسري العتق من النصف.
ومنهم من قال: تقديرُ وقوع الطلاق بتنزيل عضو أو جزء منزلة الكل، فإذا قال: يدك طالق، أو نصفك طالق، كان كما لو قال: أنت طالق، وإذا كان التقدير على هذا الوجه، فلا حاجة إلى تقدير توجيه الطلاق على البعض والتسرية منه إلى الباقي.
توجيه الوجهين:
9135- من قال يقدّر فيه التَّسرية استدلّ بمقتضى اللفظ أولاً، وبما استشهدنا به من التسرية في العتق.
ومن قال: لا تقدر التسرية احتج بأن الطلاق لا يفرض له ثبات على جزء شائع حتى يُبنى عليه التسرية منه، وليس كذلك العتق المضاف إلى الجزء الشائع وإذا كانت التسرية نتيجة إمكان الثبات على الجزء المذكور، وذلك غير ممكن في الطلاق، فيتصدّى بعد ذلك إبطال اللفظ وإلغاؤه، أو إعمالهُ بتنزيله منزلة مخاطبة الجملة، فإذا لم يمكن الإلغاء، لم يبق إلا الوجه الثاني.
والذي يحقق هذا أنه لو قال: أنتِ طالق نصف طلقةٍ، لم يفرض ثبوتٌ وسريان، بل جعل النصف عبارة عن الكل، فإذاً ثبت الوجهان، وفائدتهما أن الرجل إذا قال لامرأته: "إن دخلت الدار فيمينك طالق، فقُطعت يمينها، ثم دخلت الدار فإن جعلنا تنفيذ الطلاق بتقدير التسرية من الجزء المعين، لم يقع الطلاق؛ لأن التسرية تستدعي تمكيناً من أصل، وذلك الأصل زائل.
وإن جعلنا العبارة عن الجزء عبارة عن الكل، فالطلاق واقع، وقوله: يمناك بمثابة قوله: أنت طالق.
ولو قال لامرأته التي لا يمنى لها: يمناك طالق، فمن أصحابنا من خرّج هذا على التردد الذي ذكرناه؛ وقال: إن جعلنا ذكر الجزء كالكل، فالطلاق واقع، وإن قدرنا التسرية، لم يقع.
وهذا غير سديد في هذا المحل، والوجه القطع بأن الطلاق لا يقع؛ لأن العبارة لم تصادف معبَّراً، فكان كما لو قال لامرأته: لحيتك طالق، أو قال: ذكرك طالق.
وهذا يجب أن يكون متفقاًعليه.
ولو أضاف العتق إلى عضوٍ معيّن من عبدِه، اختلف الأصحاب فيه أيضاً على حسب ما ذكرناه في الطلاق؛ فإن تقدير تثبيت العتاق في الجزء المعيّن ليبنى عليه التسرية مستحيل، فكان العتاق فيه كالطلاق في الجزء الشائع والمعيّن. ولو قال مالك العبد: نصفك حرٌّ، فظاهر المذهب تقدير التسرية.
ومن أصحابنا من قال: النصف في العبد الخالص عبارة عن الكل، ولا يسلك فيه مسلك التسرية؛ فإن العتق في المملوك الواحد لا يتبعض، وإنما تفرض التسرية من ملك إلى ملك.
9136- وما ذكرناه من الإضافة إلى الجزء المعين والشائع لا يجرى إلا فيما يقبل التعليق بالأغرار ويبنى على السّريان والغلبة. قال القاضي: إضافة الإقالة والفسوخ إلى الجزء المعين فاسد لاغٍ؛ فإن الفسوخ ينحى بها نحو العقود، ولا تُعَلّقُ كما لا تُعَلَّقُ العقود؛ فما لا تصح إضافة العقد إليه لا يصح إضافة الفسخ إليه، والإقالة بين أن تكون بيعاً أو فسخ بيع.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت طالق بعض تطليقة... إلى آخره".
9137- إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض تطليقة، طلقت طلقة واحدة، وهذا على مذهب تنزيل العبارة عن البعض منزلة العبارة عن الكل، ولا تتخيل التسرية في ذلك.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة أثلاث، أو خمسة أرباع، أو ما شابه ذلك، فزاد على الأجزاء الطبيعية، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يقع إلا طلقة؛ فإنه أضاف الأجزاء التي ذكرها إلى طلقة واحدة، فكان الاعتبار بالمضاف إليه، فإن زادت الأجزاء، فالزائد ملغى؛ فإن الأضافة من غير مضاف إليه لاغية، لا حقيقة لها.
والوجه الثاني- أنه يقع طلقتان؛ فإنه زاد على أجزاء طلقة، فانصرف نصفان إلى طلقة وتمت بهما، والزائد محتسب من طلقة أخرى والطلاق على الغلبة والسّريان.
وحقيقة الوجهين ترجع إلى أن من الأصحاب من يعتبر المضاف إليه ولا يزيد عليه، ومنهم من ينظر إلى الأجزاء المذكورة، فإن كانت على قدر طلقة أو أقل، نفذت طلقة، وإن كان في الأجزاء المذكورة زيادة، فهي محتسبة طلقة أخرى.
9138- ويتفرع على ما ذكرناه مسائل: فإذا قال: أنت طالق أربعة أنصاف طلقة، ففي وجهٍ طلقة، والزيادة لاغية، وفي الوجه الثاني طلقتان.
وإذا قال: خمسة أنصاف طلقة، فهي في وجهٍ طلقة، وفي وجهٍ ثلاث طلقات؛ فإن الطلقتين يكملان بأربعة أنصافٍ، والنصف الخامس يُعتد به من الطلقة الثالثة.
وعلى هذا قياس سائر الأجزاء، إذا زادت على أجزاء واحدة.
9139- ولو قال: أنت طالق نصف طلقتين، وزعم أنه أراد نصفاً من كل طلقة، وقعت طلقتان، ولو أطلق لفظه، فالأصح أنه لا يقع إلا طلقة، فإنه يظهر حمل نصف الطلقتين على طلقة من غير أخذ جزء من كل طلقة.
ومن أعظم الأصول المعتبرة ألا نوقع الطلاق إلا على استيقان، أو ظهورٍ يلي الاستيقان، والضابط فيه أن يكون تقدير الحَيْد عن ذلك الظهور في حكم المستكره في الكلام المستبعد، وحمل نصف الطلقتين على طلقة لا استكراه فيه.
ومن أصحابنا من قال: يقع طلقتان؛ فإن نصف الطلقتين بمثابة نصف العبدين، ونصف العبدين نصفٌ من كلّ عبدٍ، فليكن الأمر كذلك في نصف الطلقتين.
فإذا حمل هذا على الإشاعة، لزم وقوع طلقتين، وينشأ من هذا أنه لو قال: لفلان نصف هذين العبدين، ثم قال: أردت أن أحد العبدين له، لم يقبل ذلك منه وفاقاً، والسّبب فيه أنهما شخصان، فلا شك لا يتماثلان، فإضافة النصف إليهما تتضمن إضافة النصف إلى كل واحد منهما لا محالة، وليس كذلك إضافة النصف إلى طلقتين؛ فإن الطلقتين تضاهيان عدداً محضاً من غير تمثيل معدودٍ، فإذا أضيف النصف إلى اثنين من العدد، اتّجه فيه الحمل على واحدٍ.
ومن سلك المسلك الآخر جعل الحكم المسمى بالعدد كالشخص الماثل.
هذا إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين وأطلق.
فإن قال: أردت بنصف الطلقتين طلقة، فإن حملنا المطلَق على هذا، فلا شك أنه إذا فسّر به قُبل، وإن لم يحمل المطلق على هذا، فإذا فسّر به، ففيه وجهان. ولهذا الفنّ أمثلة ومسائل مضى بعضها، وسنكمل الأُنس بذكر باقيها.
9140- وبالجملة الألفاظ ومعانيها على مراتبَ عندنا، فمنها: ما لا سبيل فيه إلى الإزالة ظاهراً وباطناًً، وهذا يفرض في جهات مخصوصة، وهو ممثل بأن يقول لامرأته: "أنت طالق"، ثم زعم أنه نوى طلاقاً لا يقع، فهذا مردود ظاهراً وباطناً، وضبطه أنه لو صرح به متصلاً، لرُدّ وأُلغي، فلا يزيد منويُّه على ملفوظه.
والرتبة الثانية- ما لا يُقبل فيه تغيير اللفظ ظاهراً، ويدَيَّن اللافظ بينه وبين الله تعالى. وهذا كقول القائل: أنت طالق، مع إضماره التطليق عن الوثاق، وقد ضبطنا قاعدة التديين بما فيه أكملُ مَقْنع، وهذه المرتبة تضبط بأن يضم اللافظ ما لا يعتاد إرادته باللفظ مع اختلاف الأحوال، ثم ينقسم مسلك المذهب: فمن الأصحاب من يضبطه بما يمكن النطق به، ومنهم من يضبطه بذلك ويشترط معه إشعار اللفظ به في وضعه على بُعدٍ كالتطليق عن الوثاق.
والمرتبة الثالثة ظهور اللفظ في غرضٍ مع صرفه بتأويلٍ آخر إلى وجهٍ آخر، والصرفُ إلى ذلك الوجه قد يجري في مجاري الكلام، ولا يبعد بُعْدَ ما ذكرناه في المرتبة الثانية.
وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: قد يظهر التأويل حتى يكاد يكون اللفظ في حكم المتردّد بين معنيين، فيظهر في هذا المقام ألا نحكم بالوقوع بحكم اللفظ.
وقد يخفى التأويل-وإن كان يفرض جريانه- فيغلب أن مطلِق اللفظ لا يُطلِق اللفظَ إلا على مقتضى ظهور؛ فإن أراد غيره صُرِف بالنية، فما كان كذلك يضطرب الرأي في حكم إطلاقه.
وقد يتناهى ظهور اللفظ، ويخفى التأويل، حتى يقتضي الرأيُ القطعَ بحمل المطلق على الوقوع، ويتردد الرأي في قبول التأويل في حكم الظاهر، فيصير التأويل في نظرٍ مائلاً إلى التديين، وفي نظرٍ يمتاز بتقدير إجرائه في الفرق وإن كان على ندور.
وتُهذَّب هذه الأقسام بأن نقول: إذا تردّد اللفظ بين أن يقع ولا يقع، وظهر التردّد، قطعنا بنفي الوقوع.
وإن تعلّى عن التردّد، وكان الوقوع أظهر، ولم ينته التأويل إلى الخفاء، قطعنا بقبول التأويل؛ فترددنا في صورة الإطلاق.
وإن اتصل التأويل برتبة الخفاء، أعملنا اللفظ المطلق، وإن ادعى اللافظ صرفه إلى التأويل، ترددنا فيه.
وهذا الذي نذكره أقصى الإمكان في الضبط.
وميزان هذه الأقسام قريحة الفقيه على شرط الرسوخ في معرفة اللفظ والعادة.
9141- وما ذكرناه الآن مثال قسم من هذه الأقسام. فإذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، فالذي نراه أن الحمل على طلقة مع الحمل على نصفي طلقتين في رتبة التقاوم واللفظ مردّد بينهما، فكان الأظهر أن المطلق منه يحمل على الأقل، ومن أبدى فيه خلافاً؛ فلإلفه بالخلاف في الألفاظ المطلقة وعدم اعتنائه بمعرفة الإقرار.
ولو قال: أنت طالق نصفي طلقتين، فاللفظ محمول على طلقتين كيف فرض وقدّر.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين، فالأجزاء المضافة زائدة على المضاف إليه، فمن راعى المضاف إليه، أوقع طلقتين، وألغى الزيادة، ومن راعى الأجزاء في أنفسها أوقع ثلاث طلقات على القياس المقدم.
ولو قال: أنت طالق خمسة أنصاف طلقتين، فمن راعى المضاف إليه، لم يزد على طلقتين؛ فإنه إذا ألغى الزيادة، لم يكترث بمبلغها، ومن نظر إلى الأجزاء أوقع الثلاث؛ فإنه لم يجد أكثر من الثلاث.
9142- ولو قال: أنت طالق سدس وثلث وربع طلقة، فالواقع طلقةٌ.
ولو قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وربع طلقةٍ وثمن طلقةٍ، فالمذهب الصحيح أنه يقع ثلاث طلقاتٍ؛ فإنه عطف الجزء على الجزء، وأضاف كل جُزءٍ إلى طلقةٍ، فاقتضى ذلك تغاير الطلقات المضاف إليها، وإذا تغايرت، انصرف كل جزءٍ إلى طلقةٍ، وهذا يقتضي التعدّد لا محالة.
ومن أصحابنا من قال: إذا نوى صَرْفَ هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قُبل ذلك منه، وإن تعددت الألفاظ، ومثَّل هذا القائل المسألةَ بما لو قال: أنت طالق طالق طالق؛ فإن الألفاظ وإن تعدّدت تطرّق إليها إمكان التوحيد والتأكيد، فكذلك الطلقات وإن تعدّدت، فالأمر فيها على التردد، وإذا تردّدت الطلقات بين التأكّد والتجدّد والأجزاء مضافة إليها، تبع المضافُ المضافَ إليه.
وهذا ساقط لا أصل له، والأصل ما قدّمناه؛ وذلك أنه لو قال: أنت طالق طلقة طلقةً طلقةً، فالتأكيد مقبول، ولو خلل بين الطلقات صلاتٍ متغايرة، فهي على التجدّد، والإتيان بالأجزاء المتغايرة يفيد من التجدد في المضاف إليه ما تفيده الصلات المتغايرة، والمسألة مفروضة فيه إذا قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وثمن طلقة.
وقد يجرى ذلك الوجه الضعيف فيه إذا قال: أنت طالق ثلث طلقةٍ وثلث طلقة وثلث طلقةٍ.
9143- ومن قواعد هذا الفصل إيقاع طلقةٍ بين نسوةٍ، فإن هذا قد يُفضي إلى التبعيض، فكان منتظماً مع تبعيض الطلاق. فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت عليكن طلقة، وقع على كل واحدة منهن طلقة لا محالة، فإنه عمّمهن، وصرّح باشتراكهن، فكأنه طلق كل واحدة ربع طلقة.
ولو قال: أوقعت عليكن طلقتين وقصد قسمة الطلقتين عليهن على استواء وتعديل من غير إفراد كل طلقةٍ بالتوزيع على جميعهن، فمقتضى هذه القسمة أن يخص كل واحدة نصف طلقة، فيطلقن واحدة واحدة.
ولو قال: أردت كل طلقةٍ على جميعهن، فيخص كل واحدة منهن جزءان من طلقتين، فتطلق كل واحدة طلقتين.
ولو أطلق، ولم يتعرض لتفصيل القسمة، فلفظه في الإطلاق محمول على استواء القسمة من غير تقدير فضّ كل طلقةٍ على جميعهن؛ فإن تقدير هذا تأويل بعيد، ولا تحمل اللفظة مع إطلاقه على التأويل البعيد.
وإذا قال الرجل لعبده: اقسم درهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمورُ منه تقسيمَ كل درهم على جميعهم.
9144- ولو قال: أوقعت بينكن تطليقةً، ثم زعم أنه أراد تطليق واحدة منهن دون الباقيات، والمعنيَّ باللفظ أوقعتُ طلقةً على واحدة منكن، فإذا كانت المطلّقة بينهن، فالطلاق بينهن، وهو كقول القائل وهو يتّهم بالسرقة واحداً من جمع: المسروق لا يخرج من بين هؤلاء، فيطلِقُ اللفظ، وإن كان يرى أنه في يدٍ واحد منهم دون غيره من أصحابه. فإذا فسّر قوله: أوقعت بينكن تطليقة بما ذكرناه، فقد ذكر الأصحاب وجهين:
أحدهما: أن ذلك لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ التشريك وترك هذا المقتضى إزالةٌ للظاهر بتأويل بعيدٍ.
والوجه الثاني- أن هذا مقبولٌ منه، وهذا الوجه صححّه بعض المصنّفين، وزعم أنه الأظهر، وهو غير سديد. والصحيح حمل اللفظ على الاشتراك؛ لأن الطلاق أضيف إلى جميعهن بصلةٍ اتصلت بضميرهنّ.
وقد زيّف القاضي قبول تخصيص الطلاق بواحدة منهن، ولم يحك الشيخُ أبو عليّ هذا الوجهَ أصلاً، بل قطع بأنّ اللفظ محمول على الاشتراك، ثم الذين يصححون وجوب الحمل على الاشتراك ويضعّفون الوجه الآخر قاطعون بأن اللفظ المطلق من غير إبداء قصد محمول على الاشتراك.
ومن صحح قبول حمل الطلاق على واحدة لا بعينها ذكر في الإطلاق أن الظاهر الحَملُ على الاشتراك، وشبّب بوجهٍ مخالفٍ لهذا واللفظُ مطلق. وهذا باطل قطعاً، فلا شك في الحمل على الاشتراك في الإطلاق، وإنما التردد فيه إذا قال: أردتُ تطليق واحدة لا بعينها، والأصح أنه لا يقبل.
9145- ولو قال: أوقعت بينكن ثلاثَ طلقات، وأراد القسمة المستوية، أو أطلق اللفظ، فتطلّق كلّ واحدة طلقة، ويخصها من القسمة ثلاثةُ أرباع طلقةٍ، ثم تُكمّل.
ولو قال: أردت توزيع كل طلقةٍ عليهنّ، طُلقت كل واحدة ثلاثاًً، والمطلَق محمول على القسمة المستوية.
ولو قال: أوقعت بينكن أربعَ طلقاتٍ، وأراد الاستواء، أو أطلق، طلقت كل واحدة طلقةً، وأصابها من حساب القسمة طلقة.
ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات وهن أربع، طُلِّقت كل واحدة طلقتين؛ فإن القسمة المستوية توجب أن يخص كلَّ واحدة طلقةٌ وشيء.
ثم هذا جارٍ في الست والسّبع والثمان.
فإن قال: أوقعت بينكن تسعَ طلقات وأراد القسمة المستوية أو أطلق اللفظ، طلقت كلُّ واحدة ثلاثَ طلقات؛ فإن تسوية القسمة على الأربع والمقسوم تسعة يوجب أن يخص كل واحدة طلقتان وربع، أو جزء طلقة فَتُكَمَّلَ.
وإن أراد تقسيط كل طلقة، فقسمة الثلاث عليهنّ يوجب تكميل الطلقات في حق كل واحدة، فلا معنى لذكر هذا القسم وراء الثلاث.
9146- ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات وكن أربعاً، فإن أطلق لفظه، طلقت كل واحدة طلقتين، كما تقدم، وإن قال: أردت تطليق واحدةٍ ثلاثاًً، وتطليق واحدة اثنتين، وتبرئة اثنتين عن الطلقات، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه: فمن أصحابنا من قال: لا يجوز إخراج واحدة منهن عن الطلاق؛ لما يقتضيه اللفظ من التشريك.
ومن أصحابنا من قال: يُقبل ذلك منه، وقد قدمنا هذا الخلاف.
ولو قال: أردتُ تطليق فلانة منهن ثنتين، وفضَّ ثلاث طلقات من الخمس على الباقيات، حتى يطلقن واحدة واحدة، فهذا ليس فيه إخراج واحدة عن أصل الطلاق، ولكن فيه تفاوت بينهنّ في المقدار، فمن قبل منه إخراج بعضهن عن قسمة الطلاق، فلا شك أنه يقبل هذا أيضاً، ومن لم يقبل إخراج بعضهن عن الطلاق، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا فيه تردّد: من أصحابنا من قال: لابد من تقدير التسوية والقسمة، ثم ننظر إلى ما يقتضيه حكم القسمة في حق كل واحدة.
وقطع الشيخ أبو علي بأن التفاوت في القسمة مقبول من تفسيره؛ فإنه أضاف الطلقات إليهن وأبهم القسمة مردَّدةً بين تخيّر التفاوت وبين التعديل، فإذا لم يأت ما يخالف الاشتراك والإضافةُ مبهمة، اتّجه قبول تفسيره.
9147- ولو قال: بينكن-وهنَّ أربعٌ- عشرُ طلقات، فإن أراد القسمة المستوية قُبل، وطلقت كل واحدة ثلاث طلقات؛ فإنه ينالها طلقتان ونصفٌ.
ولو قال: أردت فضَّ العَشْر على أن يكون ثلاث على زينب، وثلاث على عَمْرة، وثلاث على فاطمة، وواحدة على عائشة، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه واختيار الشيخ فيه القبول.
ولو قال: أوقعت بينكن طلقتين وهُنّ أربع، ثم ادّعى أنه أراد تطليق اثنتين دُون الأُخريين، ففي المسألة وجهان، وكذلك لو قال: أوقعت بينكن أربعاً، ثم قال: أردت طلقتين على واحدة وطلقتين على واحدة، ففي المسألة الوجهان المذكوران.
ولو ادعى أنه أراد إيقاع الأربع على واحدة منهن، وفرّعنا على أنه يقبل منه تفسير التخصيص، فهاهنا تطلّق المعيّنة ثلاثاًً، وفي الطلقة الرابعة جوابان للقاضي:
أحدهما: أنها تلغو، فكأنه قال لواحدة: أنت طالق أربعاً؛ فإنا إذا قبلنا التخصيص في الأصل، فهذا من موجبه.
والجواب الثاني- أن هذه الطلقة الرابعة توزّع على الثلاث الباقيات، حتى لا تضيع؛ فإن تفسير التخصيص إنما يقبل إذا لم يتضمن إحباط طلاقٍ مما جاء به.
والمسألة محتملة حسنة.
9148- ولو قال وتحته أربع نسوةٍ لثلاث منهن: أوقعت بينكن طلقةً، وحملنا هذا على الاشتراك، فيقع على كل واحدة منهنّ طلقة بحكم اللفظ، فلو قال للرابعة: أشركتك معهنّ-والمسألة لصاحب التلخيص-، قال الأئمة فيها: إن لم ينو بقوله أشركتك طلاقاً، لم يقع شيء؛ فإنه كناية. وإن قال: أردت بذلك طلقةً واحدةً وعنيت بالإشراك أن تكون كواحدة منهن، فيقبل هذا منه؛ فإن هذا الاحتمال ظاهر.
ولو قال: أردت بالإشراك أن تصير الرابعة شريكة لكل واحدة من الثلاث على التفصيل، فينالها من شركة كل واحدة طلقة، فتطلق ثلاثاً.
ولو قال: نويت الإشراك، ولم يخطر لي لا الواحدة ولا الثلاث، فقد قال القفال فيما حكاه الشيخ أبو علي: إن هذه الرابعة تطلق طلقتين؛ فإنه نال الثلاث ثلاث طلقات، وهن حزِبٌ، وهذه الواحدة في مقابلتهن، وقد لحقهن ثلاث طلقاتٍ طلقة طلقةً، فإشراكها يتضمن أن تكون على النصف من ثلاث طلقات، فينالها طلقة ونصف، وإذا كمّلنا، أصابها طلقتان.
قال الشيخ أبو علي: الصواب عندي أن هذه الرابعة في صورة الإطلاق لا تطلّق إلا واحدة؛ فإن ظاهر التشريك في الطلاق يقتضي أن تكون كواحدة منهن، حتى تنزل منزلة الواحدة، هذا أقرب إلى الفهم، وأقرب إلى الدرك من جمع ثلاث طلقات، وتقدير التشطير فيها والأمر على ما ذكره الشيخ، ولا اتجاه لغيره.
9149- ومما يتعلق بتمام المسألة أنه لو قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن ثُلثَ طلقة وسدُس طلقةٍ ونصفَ طلقة. قالى العراقيون: يقع على كل واحدة ثَلاث طلقات، فإنه فصل الطلقات، وقسم كل جزء من طلقةٍ عليهنّ، وهذا الذي ذكروه ينبني أولاً على ما لو قال لواحدة: أنت طالق سدس طلقةٍ وثلث طلقةٍ ونصف طلقة، وهذه المسألة قدّمناها. فإن قلنا فيها: الواحدة لا تطلق ثلاثاًً إذا أطلق الزوج هذه الألفاظ، فهذا في القسمة أَوْلى، وإذا قلنا: الواحدة إذا خُوطبت بهذه الألفاظ، طلقت ثلاثاً، فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت بينكنّ سدس طلقةٍ، وثلث طلقة، ونصف طلقة، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: أوقعت بينكنّ ثلاث طلقات، والقسمة المستوية لا توجب في ذلك إلا طلقة.
ويجوز أن يقال: لمّا أفرد ذكرَ كل جزء من طلقة، ظهر من ذلك قصد توزيع كل طلقة على الجميع، والتقديرُ قسمت عليكن طلقة، ثم أخرى، ثم أخرى.
ولو قال على الطريقة التي ارتضاها العراقيون: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فهذا محتمل على قياسهم، يجوز أن يقال: تطلّق كل واحدة ثلاثاًً لما في لفظه من التفصيل، ويجوز أن يقال: هذا كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، ويجوز أن يقدر فرقٌ بين هذا وبين أن يقول: أوقعت بينكن سدس طلقة، وثلث طلقةٍ، ونصف طلقةٍ؛ فإن في تغاير أجزاء الطلاق مزيد دلالة على تفصيل بعضها عن البعض بالقسمة، وليس في عطف الطلقة على الطلقة هذا.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين، فهي واحدة... إلى آخره".
9150- قدمنا في كتاب الأقارير أصل الاستثناء وتفصيلَه، والقولُ في صورة الاستثناء يتسّع في الأقارير؛ فإنّ فرض الأعداد ممكن، فيتوسع المجال في ورود النفي على الإثبات، والإثباتِ على النفي، ولا مزيد على الثلاث في الطلاق، وفيما قدمناه من الأقارير ما يُطْلع على تمام المقصود في الطلاق، ونحن نتوفَّى التكريرَ جهدنا، ولكن لا يمكن إخلاء هذا الفصل مما ذكره الأصحاب، فإن اقتضى الترتيب تكريراً، كان محتملاً، ونحن نحرص ألا نُخلي ما نذكره عن زوائدَ وفوائدَ.
وفي الاستثناء أصلان معتبران:
أحدهما: الاتصال، وقد مضى بيانهُ وسببُ اشتراطه. والآخر- ألا يكون الاستثناء مستغرقاً للمستثنى عنه؛ فإن استغرق، كان مردوداً ولا يتوقف الرّد على بعضه، بل يَحبَط كلُّه، وينفُذ المستثنى منه بكماله.
ومن الأصول المرعيّة أن الاستثناء يناقض المستثنى عنه، فإن جرى بعد نفي، كان إثباتاً، وإن جرى بعد إثباتٍ، كان نفياً.
ومن الأصول أن الاستثناء المعطوف على الاستثناء في معناه، فلا يكون استثناء منه، بل يكون مع المعطوف عليه استثناء عما تقدم، وإن جرت صيغة الاستثناء بعد الاستثناء من غير واو عاطفة، فالثاني استثناء من الاستثناء الأول، ويجري على مضادته لا محالة.
9151- ونحن بعد الإشارة إلى الأصول نذكر المسائل؛ فإن قال: أنت طالق ثلاثاًً إلاّ ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وبطل الاستثناء، وصار كأنه لم يكن.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، طلقت ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة، وإلا واحدة، فقد استثنى طلقتين بعبارتين معناهما واحدٌ، فكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين إلا واحدة، فاللفظة الأخيرة استثناء من الاستثناء؛ فإنها غير معطوفة، والتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، فهو إثباتٌ، إلا ثنتين لا تقعان، وهذا نفي ما أثبته، إلا واحدة تقع، وهذا إثبات ما نفاه.
وإذا عَطَف المستثنى عنه بعضَه على بعض، وأَتى بالعدد في صيغٍ وعَطَف البعض منها على البعض، ثم عَقّبه باستثناءٍ، فهل نجمع المستثنى عنه حتى كأنه في صيغةٍ واحدة أم نتركه على إفراده ونقطعه؟ ذكر القاضي وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي، وتصوير المسألة أن يقول: أنت طالق واحدةً، وواحدة، وواحدة، إلا واحدة. فقد ذكر ثلاث طلقات في ثلاث صيغ، فمن جمع تلك الصيغ، صحح الاستثناء، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، ومن يترك تلك الصيغ على تقطيعها، فالاستثناء عنده باطل، فإنه قال آخراً: وواحدة، ثم قال: إلا واحدة، فانصرف استثناء الواحدة إلى الواحدة، فكان مستغرقاً، والاستثناءُ المستغرق باطل.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فإن جمعنا الصيغ، لم يقع إلا طلقة واحدة، وكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين، ولو تركنا الصيغ على تقدّمها وتقطعها، وقع الثلاث وبطل الاستثناء؛ فإنه قال آخراً: وواحدة إلا ثنتين، فاستثنى ثنتين من واحدة والاستثناء زائد على ما يقع به الاستغراق.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث كيفما قدّرنا: ضممنا الصيغَ، أو تركناها مفرّقة.
9152- ولو عطف الاستثناءات بعضَها على البعض بحرف الواو، فالكل في معنى واحدٍ لما مهدناه من اقتضاء العطف الإشراك، ولكنا هل نجمعها على تقدير أنها كالمذكورة في صيغة واحدة أم نتركها على تقطعها ونفرّق صيغها؟ قال القاضي وغيره: في المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا عطف المستثنى عنه بعضه على البعض بالصيغ المتفرقة.
وبيان الغرض بالصور أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدةً، وواحدة، وواحدة، فإن جمعنا هذه الصيغ وجعلناها كالصيغة الواحدة، بطلت بجملتها، ووقع الثلاث، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً.
ولو تركناها على تقطعها، فيصح الاستثناء في ثنتين وتبطل الصّيغة الأخيرة، فإنها مستغرقة، فيختص الإبطال بها، ويصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة وواحدة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين وإلا واحدة، فإن جمعنا الصيغ، أوقعنا الثلاث، وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرعنا على التفريق، فاستثناء الثنتين صحيح واستثناء الواحدة باطلٌ مردودٌ.
ولو قلب، فقال: إلا واحدة وثنتين، فالثلاث تقع على أحد الوجهين، ويقع ثنتان على الوجه الثاني، فإن الصّيغة الأولى في الاستثناء مشتملة على واحدة، والصيغة الثانية مستغرقة، وإذا بطل بعض مضمونها بطل الجميع.
9153- ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، إلا ثنتين، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع، إلا ثنتين تقع، ففي المسألة أوجه: أحدها: أن الثلاث تقع؛ لأن الاستثناء الأول، كان مستغرقاً فلغا، ولغا الثاني، لأنه استثناء من لاغٍ، وهذا ضعيف.
والوجه الثاني-وهو الأصح- أنا نصحح الاستثناءين، فنجعل الاستثناء الثاني منصرفاً إلى الاستثناء الأول على حكم المضادة، فيخرج الاستثناء الأول من كونه مستغرقاً، فإذا خرج عن كونه مستغرقاً، صحّ، والتقدير على ما قدمناه أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع إلا ثنتين تقعان فيعود الاستثناء الأول إلى واحدة، فيقع طلقتان، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة.
والوجه الثالث: أن الاستثناء الأول يلغو، ويرفع من البين، فيقدّر كأنه لم يكن، فيبقى الاستثناء الثاني، والطلقات الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ولو قال ذلك، لم يقع إلا طلقة واحدة.
وهذا على نهاية الضعف، ولولا اشتهاره وتوّلع الأصحاب بحكايته، لما ضمَّنته هذا المجموع، فإنه خارج عن صيغة اللفظ، وعن حكم القصد والمراد، وليس في المصير إليه استمساكٌ بمقتضى فقهيّ.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة وواحدة وواحدة، وقع الثلاث إجماعاً؛ لأنا إن جمعنا، لم نخصص بالجمع جانباً، وكان التقدير أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرقنا، لم نخصّص بالتفريق واحداً من الجانبين، فيؤول الكلام إلى استثناء واحدة عن واحدة، فيقع الثلاث على التقديرين جميعاًً.
وكان شيخي أبو محمد يقول: "كل تفريق يؤدي إلى تصحيح الاستثناء، فهو مختلف فيه؛ ميلاً إلى إيقاع الطلاق".
ولا أصل لهذا؛ فإنا نتبع الألفاظ وصِيغَها، فإن عنّ لفقيهٍ تغليبُ وقوع الطلاق، عارضه أن الأصل عدم وقوعه، ومن الأصول الممهدة أنا إذا ترددنا في وقوع الطلاق، قلنا: الأصل عدم الوقوع.
9154- ومما يتعلق بتتمة الفصل أمرٌ فرّعه ابن الحدّاد، وتكلم الأصحاب فيه، وذلك أنه قال: إذا زاد المطلّق على العدد الشرعي في الطلاق، فالاستثناء بعده يتردّد كما نصف ونصوّر. فإذا قال لامرأته: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاًً، فقد اختلف أصحابنا في المسألة اختلافاً مشهوراً، فمنهم من قال: يقع الثلاث؛ فإن الخمس التي ذكرها عبارة عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، ولو قال، لوقعت الثلاث؛ لأن الاستثناء مستغرق.
والوجه الثاني- وهو اختيار ابن الحداد أنه يقع ما استبقاه بعد الاستثناء، والخمسُ إذا استثني منها ثلاث، بقيت ثنتان، فتطلق طلقتين، وسرّ هذا الوجه أنه ذكر الخمس ليتوسّع في الاستثناء، فليقع ما يلغو في مقابلة ما يستثنى؛ إذ هذا طباع الاستثناء، وليقع ما بقي.
ولو قال: أنت طالق أربعاً إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فمن قال: الأربع عبارة عن الثلاث، يقول في هذه الصورة: لا يقع إلا طلقة، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ومن قال: يقع ما أبقى، حَكَم بوقوع طلقتين.
ولو قال: أنت طالق ستاً إلا ثلاثاًً، فيقع الثلاث على المذهبين، وخروجه بيّن، فإن من يعتبر ما يبقى بعد الاستثناء يقول: قد بقي ثلاث، ومن جعل الست عبارةً عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وهذا بيّن إذا تأمّلته.
ولو قال: أنت طالق طلقتين ونصفاً إلا واحدة، قال ابن الحداد: يقع الثلاث، وإنما بناه على أصلٍ ذكرناه في تقطيع العبارة، فكأنه قال: أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة.
9155- ومما يتعلق بتمام الفصل أن بعض الطلقة في الإيقاع طلقةٌ، كما سبق تمهيده، وإن غالط مغالط وقال: لا يقع طلقةٌ بلفظ النّصف، ولكن إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق نصفَ طلقة، وقع الطلاق بقوله: "أنت طالق"، ولغا قوله: نصف طلقة. ولو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع، لوقع، فذكر النصف بعد ذكر الطلاق لا معنى له.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو قال: أنت طالق طلقةً ونصفاً، وقعت طلقتان، ولا حيلة في الطلقة الثانية-وقد استقل الطالق بطلقة- إلا حملُ نصف طلقة على طلقةٍ، وكذلك لو قال: أوقعت عليك نصف طلقة، وقعت طلقة.
فهذا أصلٌ لا مدافعة فيه.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث ولغا استثناء النّصف، هذا ما صار إليه حملة المذهب.
9156- وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع ما ذكرناهُ، وحكى وجهاً غريباً أن النصف في الاستثناء بمثابة الطلقة، ونجعل البعض عبارةً عن الكل في الإيقاع والإسقاط، وهذا غريب، لم أرَهُ إلاّ لهُ.
ووجهه-على بعده- أنا نحكم بوقوع الطلقة إذا جرى ذكر بعضها، لا على مذهب السريان، كما تقدّم شرح ذلك، بل لا يتجه فيه إلا إقامة العبارة عن الجزء مقام العبارة عن الواحدة، ولعلّ السر فيه أن ما لا ينقسم فبعضه ككلّه.
وهذا غير صحيح؛ فإن الطلاق يُغَلَّب في وقوعه، والاستثناءُ مناقَضةُ الوقوع، وإذا استثنى من يبغي النفي بنصف طلقة، فقد ألغى نصف طلقةٍ والذي أبقاه يُكمَّل.
ولو كنا نجري على أن الجزء عبارة عن الكل فيما لا ينقسم، للزم أن نقول: ما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة في أن الرجل إذا قال: زوَّجْتك نصف ابنتي، كان بمثابة ما لو قال: زوجتك ابنتي، لم يختلف أصحابنا في أن النكاح لا يصح بذكر الجزء من المنكوحة.
فالتفريع إذاً على أن استثناء الجزء باطل، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقةً ونصفاً، بطل استثناء النصف، وصح استثناء الواحدة، ووقعت طلقتان.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين ونصفاً، فإن جعلنا النّصف عبارة عن طلقةٍ في الوجه الغريب الذي حكاه الشيخ أبو علي، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين وواحدة، ثم يقع هذا في أنا هل نجمع المفرّق؟ فيه التفصيل المقدّم.
وإن قلنا: إنَّ ذكر الجزء في الاستثناء باطل، فهذا فيه احتمال على هذا المقام: ظاهر القياس أن النصف يبطل، ويبقى استثناء ثنتين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، ولا يتجه فيه إعمال الاستثناء؛ لأن في إعماله إبطاله، إذ لو عمل النصف، لصار الاستثناء مستغرفاً مع التفريع على أن المفرّق كالمجموع، ونحن نغلب وقوع الطلاق في هذه المنازل.
ولو قال-والتفريع على الأصحّ-: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقتين إلا نصفَ طلقة، فهذا الاستثناء الأخير صحيح؛ فإنه إيقاعٌ، والتقدير أنت طالق ثلاثاًً تقعُ إلا ثنتين لا يقعان، إلا نصفاً يقع.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقة ونصف، فإذا فرعنا على الأصح، فذكر النصف باطل؛ لأنه للإسقاط لو صح، فالتعويل على هذا، فمهما كان الاستثناء للإيقاع، صح فيه لفظ الجزء، ومهما كان للإسقاط لم يصح على الأصح.
وفي هذا نجاز مسائل الاستثناء، والله أعلم بالصواب.
فصل:
قال: "ولو قال: كلّما ولدت ولداً، فأنت طالق... إلى آخره".
9157- هذا الفصل يشتمل على أحكامٍ منوطةٍ بمقتضى الألفاظ، والقولِ في انقضاء العدة بوضع الحمل، وإذا اشترك في المسألة النظرُ في الألفاظ والكلامُ في الأحكام، أحوجت المسألةُ الناظرَ إلى مزيد تدبّر، ومضمون المسألة يتأدّى بمسألتين: إحداهما- مفروضة في لفظةٍ لا تقتضى التكرّر، والأخرى مفروضة في لفظةٍ تقتضي التكرر، ثم تتشعب كل مسألة. ونحن نأتي في كل واحدة بما يليق بها.
9158- فإذا قال لامرأته: إن ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ولداً، ثم أتت بولدٍ آخر لأقلّ من ستة أشهرٍ من ولادة الولد الأول، فيلحقها طلاق واحد بالولادة الأولى، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ولا يتكرر الطلاق؛ فإنه علّقه بقوله: (إنْ)، وهو لا يقتضي التكرر، والولد الثاني يلحقه نسبُه، فإن الأول لحقه؛ إذ العلوق به كان في النكاح والولد للفراش، والولد الثاني في معنى الولد الأول؛ فإنهما من بطن واحد، وحكم البطن لا يختلف احتمالاً ولحوقاً.
فإن كان بين الولدين-والمسألة بحالها- أكثرُ من ستة أشهُرٍ، فلا شك أن العلوق بالولد الثاني وقع بعد انفصال الأول؛ إذ لو كانا من بطنٍ واحدٍ، لما تخلل بينهما ستة أشهر، فإذا تبين أن العلوق بالثاني وقع بعد الأول، فهل يَلحق الولدُ الثاني الزوجَ؟
في المسألة قولان مبنيان على صورة نرسمها، ونُحيل استقصاءها على كتاب العدة، وهي أن الرجل إذا طلق امرأته طلقة رجعيةً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وكان الطلاق رجعياً، فابتداء أربع سنين يحتسب من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو الأصح عند المحققين أنه يحتسب من يوم الطلاق؛ فإن الطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لاستحلال الافتراش، وإن كان الملك قائماً، ونحن إنما نلحق الولد بالفراش؛ لاطراد استحلال الافتراش، والطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لهذا المعنى، ولهذا استعقب الاعتدادَ، وهو غير معقول إلا في زمان الانعزال.
والقول الثاني- أن ابتداء السنين الأربع محتسب من آخر العدة؛ لأنّ الرجعية في العدة زوجة، وسلطنة الزوج قائمة عليها.
وسيأتي تحقيق ذلك توجيهاً وتفريعاً، إن شاء الله.
9159- وإذا أتت المرأة بولدٍ ولحقها الطلاق عند الولادة، ثم أتت بولدٍ بعد ذلك لستة أشهرٍ فصاعداً، فنحن نعلم قطعاً أن العلوق بالولد الثاني لم يكن في حال استمرار النكاح، كما نعلم قطعاً أنها إذا أتت بولدٍ بعد الطلاق الرّجعي لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فالعلوق به لا يكون متقدّماً على الطلاق، فاستوت المسألتان في تحقق وقوع العلوق بعد الطلاق، فخرجت المسألة على قولين في لحوق الولد الثاني. فإن قلنا: الولد يلحق، فقد طُلِّقت هذه عند الولد الأول، ثم انقضت عدتها بوضع الولد الثاني، وإن قلنا: الولد لا يلحق، فلا تنقضي العدة به؛ فإن عدة الرجل إنما تنقضي بوضع المرأة حملها إذا كان الولد ملتحقاً بمن العدة منه.
ولو أتت-والمسألة كما صورناها- بولدين بينهما أقل من ستة أشهرٍ، ثم أتت بثالث لأكثر من ستة أشهر من الولادة الثانية، فيلحقها طلقة بوضع الولد الأول، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ويلحقه الولدان، ولا يلحق الولد الثالث قولاً واحداً؛ فإنا نعلم أن العلوق به وقع بعد الولد الثاني، وهذا ثابت بوضع الولد الثاني، وعاد إمكان العلوق إلى زمان البينونة، وإذا كان كذلك، ترتب عليه انتفاءُ الولد الثالث؛ فإن الولد اللاحق قولاً واحداً هو الذي يمكن تقدير علوقه في صُلب النكاح، والولد الذي اختلف القول فيه هو الذي يمكن تقدير علوقه في زمان الرجعة، ولا يمكن تقديره قبل الطلاق.
ولو قيل: لو أتت بالولد الثالث لأكثر من ستة أشهرٍ من وضع الولد الأول، ولأقلَّ من ستة أشهرٍ من وضع الولد الثاني، وكان بين الثاني والأول أقلُّ من ستة أشهر، فكيف الحكم فيه إذاً؟ قلنا: هذه مغالطة والمسألة لا تتصور كذلك؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولادٍ، كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الآخر أقل من ستة أشهر، فإن الرحم تنتفض عما فيه وتبرأ عما عداه في أقلَّ من ستة أشهر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظة لا تقتضي التكرار.
9160- فإن ذَكَر لفظة مقتضاها التكرار؛ فقال: كلما ولدتِ ولداً، فأنت طالق، فأتت بأولادٍ من بطن واحدٍ، فإن أتت بأربعة أولادٍ، لحقتها ثلاث طلقات، فتطلق بالوضع الأول واحدةً، وبوضعِ الثاني ثانيةً، وبوضع الثالث ثالثة، وتنقضي عدّتها بوضع الولد الرابع، ولا إشكال؛ فإن الطلقات كملت، وفي الرحم بقية.
فأما إذا ولدت ثلاثة أولادٍ من بطن واحدٍ، ولم يتخلل بين الأول والآخر ستة أشهرٍ، فيلحقها طلقتان: الأولى والثانية.
ثم المنصوص عليه في الجديد أن العدّة تنقضي بوضع الثالث، ولا يقع الطلاق بوضعه، ونص في الإملاء على أنّ الطلقة الثالثة تقع بالولد الثالث، وتستأنف العدة بالأقراء.
9161- فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قطع القولَ بأن الطلاق الثالث لا يقع أصلاً، وأنها تَبين بوضع الولد الثالث، ووجهه بيّنٌ؛ فإن الطلاق لو لم يلحقها، لبانت بالولادةَ؛ لمكان براءة الرحم، فإذا كان وضع الولد مقترناً بالبينونة، فالطلاق الثالث مضافٌ إذاً إلى حال البينونة، وهذا محالٌ، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فإذا طلقها تنجيزاً تنجّز الطلاق، ولا يقع ما علّقه؛ لأنها تبين بوقوع الطلاق الأول.
وهذا القائل يتأوّل نصَّ الإملاء ويحمله على ما إذا ولدت الولد الثاني، فراجعها وردّها إلى صلب النكاح، فولدت الولد الثالث في النكاح، فتلحقها الطلقة الثالثة، ثم تستقبل العدة، وتكون كما لو قال لامرأته الحامل بولد واحدٍ، وهو لا يملك إلا الطلقة الثالثة: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا ولدت، طُلِّقت، واستقبلت العدة.
وهذه الطريقة مستدّة في المعنى، ولكنها مخالفة للنصّ؛ فإن الأصحاب عن الإملاء نقلوا التصريح بتصوير اعتقاب الولادات من غير تخلل رجعةٍ.
والطريقة المشهورة طرد القولين:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد أن الطلاق لا يقع بالولادة الثالثة، ووجهه مما ذكرناه.
والقول الثاني- أن الطلاق يقع، وقد تكلف الأصحاب توجيه هذا القول لاشتهاره، فلم يتحصّلوا على معنى عليه مُعوّل.
9162- وقد ذكر القفال مسلكاً نحن نذكره، ثم نوضح اختلاله، قال: اختلف قول الشافعي في أن الرجعية إذا طلقها زوجها في عدة الرجعة، فهل تستأنف عدةً إذا لحقها الطلاق أم تتمادى على العدة الأولى؟ وقد أشرنا إلى هذين القولين فيما سبق، وسنستقصيهما في العدد، إن شاء الله.
ثم إذا قلنا: تتمادى على العدة بانيةً، فلا كلام. وإن قلنا: يستعقبُ الطلاقُ عدةً جديدة، فالعدّة الأولى تنقطع، وتستأنف هذه عدة جديدة، ثم لا نقضي بأن الطلاق وقع، وهي في بقية من العدة الماضية، ولكن نقول: يقع الطلاق على مفصل الانقطاع والاستقبال، وهو كما لو قال لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار؛ فإذا صادفها الطلاق، لم يكن الطلاق واقعاً في جزء من النهار، ولا في جزءٍ من الليل.
هذا كلامه.
وقال بانياً عليه: إذا حكمنا بأن الطلاق يقتضي عدّة مستقبلة، فالطلاق الثالث يلحق مع انفصال الولد، ويتصل به استقبال العدة، فلا يكون واقعاً في جزءٍ من العدة المستقبلة ولا في جزء من الزمان قبل تمام الانفصال، ولكن يقع على المتصل.
هذا ما ذكره.
9163- وهو كلام مضطرب، ولو التزمنا في هذا المجموع أن نُري-بفضلةٍ في اللسان- الباطلَ في صورة الحقّ، لكنا مُلبِّسين، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، ومقصودنا فيه أن نوضح ما عندنا في كل مسألة على حقيقتها، وهذا مما يقطع قولَنا فيه بأن هذا القول لا يتوجه؛ فإن الولادة هي الانفصال، ويتحقق معه من غير ترتبٍ انقضاءُ العدة، فالطلاق المعلق على الولادة لا يقع إلا مع الانفصال، وحق الإنسان أن يتحفظ في ذلك جهده، ولا يقول إلا ما يُشعر بالتحقيق.
فإن قال القائل: يقع الطلاق بعد الانفصال؛ بناء على ما ذكرناه من قول الأصحاب في أن الطلاق المعلّق على الصفة يترتب على حصولها، فهذا وجهٌ، ولكن يزداد توجيه القول بعداً؛ فإن الانقضاء يحصل بالانفصال، وتقع البينونة معه حكماً؛ فإن هذا ليس تعليقاً وشرطاً مشروطاً، وإنما هو حكم شرعي.
فإن قلنا: يقع الطلاق مع الصفة، فيصادف أول حال البينونة، وإن قلنا: يترتب عليه، فيقع مسبوقاً بالبينونة، فلا وجه أصلاً.
وما ذكره القفال غير سديد؛ فإنه فرض حكماً في غير زمانٍ، وهذا خارج عن المعقول؛ فإن التي يقال فيها: ليست مُطلَّقةً، ثم يقال: طلقت، فمن ضرورة حكم مرتب على حكم أن ينفصل كل واحد منهما عن الثاني بزمان، وقد تبيّن أن الطلاق لم يقع قبل تمام الانفصال، فليقع مع الانفصال أو بعده.
فأما الفصل، فكلام غير معقول، وأما ما استشهد به من قول الرجل لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار-وليس بينهما فاصل زماني- فالوجه عندنا القطع بأن الطلاق يلحقها في آخر جزء من الليل أو آخر جزء من النهار، وبذلك تكون طالقاً بين الليل والنهار.
فإن قيل: هلا قضيتم بأن الطلاق يقع في أول جزء من الليل؛ قلنا: لأن معنى وقوع الطلاق بين الليل والنهار أن تكون متصفةً بالطلاق في منقطع النهار ومبتدأ الليل، وهذا إنما ينتظم على الوجه الذي ذكرناه.
9164- ثم إن أصحابنا اختبطوا وراء هذا من وجوهٍ نصفها، فقال قائلون: إذا قال الرجل لامرأته الرجعية: أنت طالق مع انقضاء العدة، ففي الحكم بوقوع الطلاق قولان مبنيان على القولين في مسألة الولادة. وهذا لا شك ينطبق على مسألة الولادة، ومن أقام القولين في مسألة الولادة، التزم إقامتهما في هذه المسألة.
والذي أُنكره من قول هؤلاء أنهم قالوا: القولان في مسألة الولادة مبنيان على ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع انقضاء العدة. وهذا كلام سخيف؛ فإن الشافعيّ نصّ على القول البعيد في الولادة، ولا نصّ له في تعليق الطلاق بانقضاء العدة، فكيف يُبنى قولٌ منصوصٌ على صورة مفرعةٍ عليه. نعم، لو قيل: هذا القول يقتضي الحكمَ بوقوع الطلاق إذا قال: أنت طالق مع انقضاء العدة. لكان ذلك وجهاً.
9165- ومما ذكره بعض النقلة عن القاضي: أن هذا مفرّع عليه أن الرجل إذا قال للرجعية: أنت طالق في آخر العدّة، فهل يقع الطلاق أم لا؟ فإن قلنا: في مسألة الولادة بوقوع الطلاق، وقع الطلاق في هذه الصّورة.
وإن قلنا في مسألة الولادة المُبرئة للرّحم: لا يقع الطلاق، فلا يقع فيه إذا قال: أنت طالق في آخر العدة.
وهذا غلط صريح؛ فإن آخر العدة من العدة، كما أن آخر اليوم من اليوم، وآخر الشهر من الشهر، وقد ذكرنا العبارات الدائرة في ذكر الآخِر والأول، وإذا لاح ذلك، فإضافة الطلاق إلى جزء من العدة كيف يمتنع وقوعها؟ وأين هذا من تعليق الطلاق بالولادة المُبرئة للرحم، والعدة تنقضي بالانفصال والطلاق يقع بالانفصال، أو يترتب عليه، والانفصالُ يعقب منقَرَضَ العدة كما يعقب السّوادُ البياض من غير تخلل خلوّ عن اللون بينهما.
وإن ظنّ الناقل أن قول القائل في آخر العدة يقتضي كون زمان الطلاق ظرفاً، ثم ظنّ أن ما كان في ظرف يجب أن يكون محتوشاً به، فهذا وهم لا يشتغل بمثله طالبُ معنىً؛ فإن الظرف الزمانيّ هو الزمن الذي ينطبق عليه ما يضاف إليه ذو الظرف، فأما الإحاطة به، فمن خيالات النفوس.
ومن عجيب الأمر أن هذا القائل شبَّه قول القائل: أنت طالق في آخر جزء من العدة بقول الرّجل لامرأته: أنت طالق في آخر الحيض. ثم للأصحاب وجهان في أنه هل يبدّع بهذا الطلاق.
وهذا اضطراب فاحش، وخلطٌ للأصول، فما قدمناه من وقوع الطلاق مأخوذ من مصادفة الطلاق زماناً من الرجعة، وما استشهد به هذا القائل من إضافة الطلاق إلى آخر الحيض مأخوذ من التردّد في أنا نتبع التعبّد، وقد ورد النهي عن الطلاق في الحيض، أو نستمسك بطرفٍ من المعنى، وهو اعتبار تطويل العدة، وليس في إضافة الطلاق إلى آخر الحيض تطويلُ العدة، فقد تباعد الأصلان، وبان أن الطلاق المضاف إلى آخر عدة الرجعية واقع قطعاً، وليس هو ناظراً لمسألة الولادة، فلم نتحصل من المسألة على ما نوجّه به قول القاضي، ولم نقف في هذا وقوف ناظرٍ أو محيلٍ على ذي فكر بعدنا، ولكن القول الضعيف ضعيف كما وصفناه.
فصل:
قال: "ولو قال: إن شاء الله، لم يقع... إلى آخره".
9166- إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق، وهذا لا يختص بالطلاق، بل لو عقّب العِتاق أو البيعَ، أو الهبة، أو غيرَها من الألفاظ التي يتعلق بها العقودُ، أو غيرُها من الأحكام بالتعليق بالمشيئة، بطلت الألفاظ جُمعُ، ولم يتعلق الحكم بشيء منها.
ولو قال مستحق الدم: "عفوت إن شاء اله"، فالذي جاء به ليس بعفوٍ.
وهذا سمّاه العلماء الاستثناء، وهو في التحقيق تعليق، وسبيل تسمية قول القائل: "أنت طالق إن شاء الله تعالى" استثناء، كسبيل تسمية قول القائل: أنت طالق إن دخلت الدار استثناء، وليس يبعد عن اللغة تسمية جميع ذلك استثناء؛ فإن مَنْ أطلق قوله: أنت طالق، كان يقتضي لفظُه وقوعَ الطلاق على الاسترسال من غير تقيُّد بحالٍ، فإذا عقَّب اللفظ بالاستثناء، فكأنه ثَناه عن مقتضى إطلاقه، ثَنْي الحبل عن امتداده، وإنما سُمّي قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين استثناء، لأن الاستثناء يَثْني موجب اللفظ عن الوقوع.
وممّا نمهده في صدر الفصل أن الرجل إذا قال: "أنت طالق إن شاء الله"، فهذا في التحقيق نفي بعد إثبات، وهو مقبول، وليس كقوله: لفلان عليّ عشرة إلا عشرة، وأنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإن الاستثناء المستغرق باطل، والمستثنى عنه نافذ بكماله، وفرّق الأصحاب بين البابين، بأن قالوا: الإتيان بالاستثناء المستغرق لا يبني عليه الجادُّ ابتداءً كلامَه، ولا يعدّ الكلام المتصل به منتظماً على جدٍّ وتحصيلٍ، وأمّا تعليق الكلام بالمشيئة، فمما يعدّ منتظماً، ثم قيل: الكلام بآخره.
وهذا يعتضد بأن قول القائل: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً تعقيبُ إثبات بنفيٍ على التناقض المحض، وقول القائل: "أنت طالق إن شاء الله" تعليقٌ بصفة صيغتها تتضمن التردّد؛ فإن مشيئة الله غيبٌ لا يُطَّلع عليه، فلم يكن مبنى الكلام على التنافي والتناقض، ثم إن وقع الحكم بانتفاء الطلاق لأمرٍ يقتضيه الشرع، فهذا لا يرجع إلى اختلال الكلام في نفسه. هذا هو الفرق.
9167- وقد حكيتُ فيما أظن عن صاحب التقريب: أن التعليق بمشيئة الله تعالى لا يؤثر في إبطال الألفاظ، وهذا شيء غريبٌ لا تعويل على مثله، وقد قدّمت ذكرَه في كتاب الإقرار، فالتفريع إذاً على ما عليه الأصحاب.
ثم لا فرق بين الطلاق والعتاق؛ فإن مشيئة الله غيبٌ في جميعها. وعن مالك: أنه قال: العتق المعلق بمشيئة الله ناجزٌ، والطلاق المعلّق بالمشيئة لا يقع، وقد أورد إسحاق في مسند مُعَاذ بن جَبَل عن يحيى بن يحيى عن إسماعيل بن عيّاشٍ عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحُول عن معاذٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحبَّ إليه من العتاق، وما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أبغضَ إليه من الطلاق؛ فإذا قال الرّجل للمملوك: أنت حر إن شاء الله، فهو حرّ، ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه»، وروى أبو الوليد في تخريجه في الأيمان عن معدي كَرِب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعتق أو طلّق واستثنى، فله ثُنَيَّّاه».
ولو قال أنت طالق: إن شاء زيد، توقف وقوع الطلاق على مشيئته، فإن شاء وقع، وإلا لم يقع، والاطّلاع على مشيئته منتظَرٌ كالاطلاع على سائر أفعاله وأقواله التي يفرض تعليق الطلاق بها.
9168- ولو قال: انت طالق إلا أن يشاء الله، فهذا فصلٌ فيه اضطرابٌ للأصحاب، والرأي في التدرج إليه أن نفرض في مقدمة الخوض في التعليق بالمشيئة تعليقاً بصفةٍ أخرى، ثم تعليقاً بنفيه، ثم نفرض التعليق على هذه الصِّفة بمشيئة زيدٍ، ثم نعود بعد ذلك كُلِّه، ونبيّن الحكم فيه، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله تعالى، فنقول:
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخل زيدٌ الدّار، فهذا طلاق متعلق ثبوته بثبوت الدخول، ولو قال: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدارَ، فالطلاق ثبوته متعلق بعدم دخول زيد الدار، والطلاق القابل للتعليق يتأتّى تعليقهُ بثبوت الصّفات، ويتأتى تعليقه بانتفائها؛ فإن التعويل على قول المعلِّق، والصفاتُ وإن أُخرجت مخرج الشروط، فهي في التحقيق بمثابة الأوقات لما عُلق بها، ويجوز أن يعلق الشيء بوقت ثبوت شيء، ويجوز أن يعلّق بوقت انتفائه.
ثم إذا قال الرجل: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدار، لم يحكم بوقوع الطلق، ما دام الدخول منتظراً من زيد؛ فإن مات وفات إمكان دخوله، حكمنا بوقوع الطلق.
ثم ما عليه الأصحاب أنّ الطلاق يقع إذا تحقق اليأس من الدخول، ثم يسند وقوع الطلاق إلى ما قبل اليأس، كما تقدّم.
ولو قال لامرأته: "أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار"، فإنه إن دخل، لم تطلق، وإن لم يدخل، طُلِّقت، كما إذا قال: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار، فقوله إلا أن يدخل زيد الدار يعطي من المعنى في الحال والمآل على طوري النفي والإثبات ما يعطيه قوله: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار.
وينتظم من ذلك أنه إذا قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، فالطلاق معلَّق بعدم دخوله.
9169- ومما لا يستريب فيه من لا يرضى بالتخابيل أن الطلاق بين أن يُنَجّز أو يعلّق، وهذا تقسيمٌ لا يُفرض عليه مزيدٌ.
فإن تعلّق الطلاق، فلا انتجاز في الحال، ومتعلَّق الطلاق نفي أو إثبات، وإن تنجز، فلا يجوز أن يكون له ارتباط بأمرٍ منتظرٍ، ولا يجوز أن يقدّر معنى التنجز، ثم يفرض فيه مستدرك.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يعتقد الناظر أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار تنجيز بعده مستدرك؛ فإن الطلاق المنجز لا يستدرك، ولكن حق الفقيه أن ينظر في عاقبة اللفظ ومغزاه؛ فإن رُوعي نفيٌ أو إثبات مأخوذ من اللفظ بوقوع الطلاق، فهو متعلّق الطلاق، والطلاق متعلّق به، ونحن نبني على هذا القول إذا قال: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار، ثم إن مات زيد ولم ندر أدخل أم لم يدخل، فالرأي الأصحّ أن الطلاق لا يقع؛ فإنا لم ندر هل انتفى دخوله، فالطلاقُ متعلق بعدَمِ دخوله.
وأبعد بعض من لا بصيرة لهُ، وقال: إذا أشكل دخوله، فالأصل عدم دخوله، وهذا هذيان لا حاصل لمثلِه، فإنَّ توقع الدخول كتوقع عدم الدخول، وهما في مسلك الاحتمال متساويان، ويعارض تساويهما أن الطلاق لا يقع بالشك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، ثم مات، ولم ندر أدَخَل أم لم يدخُل، فالذي ذهب إليه الجمهور كُثرهُ أن الطلاق يقع، وإنما صاروا إلى هذا من حيث اعتقدوا أنّه نجّز الطلاق، ثم عقبه بمستدرك، فإذا لم يثبت الاستدراك، فالطلاق مقرّ على تنجيزه. وهذا عندنا خيالٌ لا حاصل له؛ فإن مضمون قوله إلا أن يدخل زيد الدار تعليق، كما أن مضمون قوله إن لم يدخل زيد الدار تعليق، وإذا لم يتحقق متعلّق الطلاق، فالوجه القطع بأن الطلاق لا يقع.
وعضَدُ هذا وتأييدُه بأن نقول: لم يعلق الزوج الطلاق بأن لا يعلم دخوله، وإنما علّقه بأن لا يدخل، معلِّقاً كان أو مستثنياً.
9170- فإذا ثبتت هذه المقدمة، رجعنا بعدها إلى تعليق الطلاق بمشيئة شخصٍ، فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فمعناه في تنزيل الكلام وتقديره:
أنت طالق إن لم يشأ زيدٌ طلاقَك، أي إن شاء طلاقَك لم تطلقي، فكأنه علق الطلاق بأنْ لا يشاء الطلاق.
ثم ممّا يجب التنبّه له-على ظهوره- أنه إن شاء الطلاق لم يقع الطلاق؛ فإن متعلق الطلاق أن لا يشاء، ولو لم يبلغه الخبر، أو بلغه، فلم يشأ نفياً ولا إثباتاً حتى فات الأمر، وقع الطلاق؛ فإنه لم يعلِّق الطلاق بأن يشاء أن لا يطلِّق، وإنما علق الطلاق بأن لا يشاء أن يطلِّق، ثم تنتفي مشيئته بإعراضه وإضرابه، وتنتفي مشيئته بعدم الطلاق بأن يشاء الطلاق، ثم إذا شاء الطلاق، لم يقع بمشيئته الطلاق، وإنما يقع الطلاق بعدم مشيئته الطلاق.
وهذا يُحوج الناظر إلى أدنى تدبّر، وهو الذي يقفه على المقصود، وإيجاز اللفظ الكافي أنجع وأوقع في مثل ذلك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمعناه كمعنى قوله: أنت طالق إن لم يشأ زيد، والتقدير أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تُطلَّق، فلا تُطلَّق.
9171- ومما يتعلق بهذا الفنّ سؤال وجواب. فإن قيل: إذا زعمتم أن متعلق الطلاق أن لا يشاء زيد الطلاق، واعتقدتم أن عدم مشيئته متعلَّقُ الطلاق، فلو شاء الطلاق، ثم أعرضَ، أو ترك، فقد تحقق عدم المشيئة، فأوقعوا الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فلم يشأ زيد زمناً، ثم شاء، فإن الطلاق يقع إذا شاء، والثبوت بعد النفي كالنفي بعد الثبوت؟
قلنا: هذا وهم وذهولٌ عن دَرْك معاني الألفاظ، (فالنفي) المرسل محمول على العموم والاستدراك، ولذلك يقتضي النهيُ استيعابَ الأزمنة بالانكفاف، و (الأمرُ) على الرأي المحقق لا يقتضي التكرار واستيعابَ الأزمان بتجديد الامتثال حالاً على حال، والتنبيه في مثل هذا كافٍ.
9172- فإذا تبيَّن هذا، عُدنا بعده إلى ما هو مقصود الفصل: فإذا قال القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالذي حكاه الصّيدلاني أن الطلاق لا يقع، وحكى قولاً آخر أن الطلاق يقع، وزعم أن الشيخ لم يحكه، ونقل من يوثق به عن القاضي أنه كان يختار الحكم بوقوع الطلاق، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله.
ولستُ أنكر أن الفطِن الفقيهَ النفس قد يبتدر إلى هذا الجواب، ولكن لو تثبّت، وغضّ نَزَقَات القريحة، ولم يُتْبع نظرَه بوادر مُضطرب النفس، وكان بصيراً بمعنى اللفظ، لتبيّن أن الوجه القطعُ بأن الطلاق لا يقع؛ وذلك أنه قال: إلا أن يشاء الله، فمعناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع، فلا يقع، ومشيئةُ الله في تعلقه وعدم تعلّقه بالنفي والإثبات غَيبٌ، وقد أوضحنا بالمقدمات أن النفي في هذه الصّيغة متعلق بالطلاق، وليس الطلاق منجَّزاً، فهذا طلاق معلّق بنفي هو في حقنا غيبٌ، والأصل استمرار النكاح، وعدمُ وقوع الطلاق.
ثم قال قائلون من أصحابنا: إذا مات زيد، وكان قال الزوج: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، ولم ندر أشاء أم لم يشأ، فالطلاق واقع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله غيب، ولا نحكم بوقوع الطلاق. ثم أخذ يفرق ويقول: المشيئة صفةٌ طارئة على زيدٍ، فالأصل عدمها، ومشيئة الله صفته الأزلية، فلا يقال: الأصل عدمها.
وهذا كلام أخرق لا بصيرة معه؛ فإن الطلاق ليس معلّقاً بنفس المشيئة، وإنما تعلُّقه بعدم مشيئة عدَمِ الطلاق، ومشيئة الله تتعلق ولا تتعلق، فعدم التعلق فيها متعلَّق طلاق الرجل، فما معنى قول القائل: الأصل ثبوت مشيئة الإله؟
ومن ألف كلامَنا وغشيَ أطراف مجلسنا، استهان بمثل هذا الكلام؛ فلا فرق إذاً بين أن يموت زيد ويستبهم علينا مشيئته، وبين أن يقع التعليق بمشيئةٍ أزليةٍ تعلُّقها غيب مستبهَمٌ علينا، فلا يقع الطلاق في الوجهين.
9173- وقد انتجز تمام الغرض، على تبرّم منا بالإطناب فيه، فإنه واضح، ومن أنعم النظر في مقدّماته، لم يخْفَ عليه دَرْكُ المقصود من آخره.
وإنما إشكال الفصل في أن يقول القائلُ: إذا أشكل أمر زيدٍ يقع الطلاق، وإذا قال: إلا أن يشاء الله لا يقع، وهذا أمرٌ لا ينفصل أبداً.
وقد يقال: عدم مشيئة زيدٍ إذاً لا تبين. قيل: لكن مشيئة الله عز وجل كذلك ثم إذا شاء الطلاق، فقد جزم العدم، لما ذكرنا من أن العدم المحلوف عليه حقه أن يستمر.
فهذه فصول كافية في غرضنا، ونحن نرى أن نصل بمختتم هذا الفصل فروعاً تتعلق بالمشيئة.
فروع:
9174- إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقد ذكرنا أن المشيئة تتعلق بالمجلس، والمعنيُّ بالمجلس قربُ الزمان المعتبر في اتصال الخطاب بالجواب، وقد قدمنا تعليلاً في ذلك، ومِلْنا في التعليل إلى ما في المشيئة من التمليك.
ولو قال: "أنت طالق إن شاء فلان"، لم يختص ذلك بقرب زمانٍ ومجلس، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن قدم فلان".
وإذا قال لأجنبي: إن شئتَ فامرأتي طالق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا على التراخي، كما لو قال: إن دخلت الدار.
والثاني: إنه على الفور؛ فإنه استدعاء نطقٍ يقع جواباً، فحقه أن يكون على الفور، وقد قال الشافعي: في الإيلاء لو قال لها: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، كان مولياً، فشَرَطَ المشيئةَ في المجلس، وإن لم تكن قد مُلّكت الطلاق، لم يُعلّق بمشيئتها الطلاق. وهذا يؤكد أحدَ الوجهين في الأجنبي. ويجوز أن يفرضَ في محل النص تخريجاً أخذاً من الخلاف المذكور في الأجنبي.
ويجوز أن يفرّق بينها وبين الأجنبي، بأن الإيلاء قد يُفضي إلى الطلاق، فهي في حكم المملَّكةِ على هذا التقدير.
وإذا قال الزوج: امرأتي طالق إن شاءت، قال القاضي: هذا مما أتوقف فيه؛ فإنها لو شاءت، لوقع الطلاق، وملكت نفسها، فهي مخيّرة مُملّكة على هذا الرأي.
وينتظم ممّا ذكرناه أنه إذا خاطب امرأته بالمشيئة بحرف (إن)، فهذا على الفور، لاجتماع معنى التمليك والاستنطاق بالجواب، ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فهذا لا يُحمل على الفور، لانتفاء معنى التمليك واستدعاء الجواب.
ولو قال لزيد: زينب طالق إن شئتَ، فوجهان لوُجُود استدعاء الجواب وانتفاء التمليك.
وإذا قال: امرأتي طالق إن شاءت، فهذا فيه معنى التمليك، وليس فيه استدعاء الجواب.
وفي هذا الفصل الأخير مستدرك عندي، فإذا قال: وامرأته حاضرة: امرأتي طالق إن شاءت، فيجوز أن يُتخيل في هذا تردد. وإن كانت غائبةً، فقال ما وصفناه، فيبعد اعتبار اتصال الجواب؛ فإن الحالة ناطقة بصريح التعليق والبعدِ عن قصد التمليك، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد ملكها التسبب إلى الطلاق، ثم لم يكن لهذا أثر في حمل الدخول على الفور، ويجوز أن نقول: إذا بلغها الخبر، فيحتمل أن يطلب منها الابتدار إلى المشيئة، وليس هذا بعيداً عن غرض المتكلم.
9175- وإذا قال: أنت طالق إن شئت أنت وأبوك، فمشيئتها تختص بالمجلس، وإن شاءت هي في المجلس، وأخّر الأبُ، ثم شاء، قال القاضي: لم يقع الطلاق، لأنه قرن بين مشيئة الأب ومشيئتها على الفور، فلزم من المشيئة المقترنة بمشيئتها ما يلزم من مشيئتها. وهذا حكاه رضي الله عنه، وراجعه أصحابه فيه، فأصر عليه.
والتحقيق أن مشيئة الأب قرينةُ مشيئةٍ يشترط فيها التعجيل والاتصال، فتكتسب مشيئةُ الأب من الاقتران التعجيلَ؛ فإن حقها أن تكون مقترنة بمشيئة الزوجة، وإذا تعجّلت مشيئة الزوجة، واقترنت بها مشيئة الأب، كانت على التعجيل.
ويحتمل احتمالاً ظاهراً أن تكون مشيئتها على البدار والاتصال، ولا يجب رعاية ذلك في مشيئة الأب، وتقرّ كلّ مشيئةٍ على حكمها لو كانت مفردةً، وهو كما لو قال: أنت طالق إن شئت ودخلتِ الدار، فالمشيئة حقها أن تتنجّز، ودخول الدار لو استأخر، ثم وقع، وقع الطلاق.
9176- ولو قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: شئتُ إن شئتَ، فقال الزوج: شئتُ، لم يقع شيء؛ لأن المشيئة حقها أن تكون مبتُوتةً مجزومة؛ فإذا قالت: شئتُ إن شئتَ، فقد أخرجت ما قالت عن كونه خبراً عن المشيئة الحقيقية. وهذا واضح.
9177- ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فشاء واحدةً، فالمذهب المشهور أنه لا يقع شيء؛ لأن معنى الكلام وتقديره الظاهر: "أنتِ طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فلا يقع شيء"، فعلّق عدم وقوع الثلاث بمشيئته واحدةً، وقد شاء واحدةً.
وهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يدخل أبوك الدار، فإذا دخل الدار، لم يقع شيء، فمشيئته واحدة بمثابة دخوله الدار في الصورة التي ذكرناها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنهُ يقع واحدةً، والتقدير عنده: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدة، فواحدة، فكأنه يقول: الثلاث يقعن إلا أن يكتفي الأب بواحدةٍ، فلا يقع إلا واحدة، وهذا التردد فيه إذا أطلق اللفظ، ولم يُرد شيئاً؛ فإن أراد وقوع واحدة على التأويل الذي ذكرناه في توجيه الوجه الضعيف، فلا شك أن الواحدة تقع؛ فإن التأويل وإن بعد، فهو مقبول، إذا كان مقتضاه وقوع الطلقة.
ومن قال: إنه يقع واحدة إذا أطلق لفظه، وهو الوجه البعيد، فلو قال اللافظ:
أردت تعليق انتفاء الثلاث بمشيئته واحدة، فهل يقبل ذلك منه حتى لا يقع شيء؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه يصدّق، ولا يقع شيء.
9178- ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئتُ، وكانت كارهةً بقلبها، فلا شك أنا نحكم بوقوع الطلاق ظاهراً، وهل يقع في الباطن؟ قال القفال: جرت هذه المسألة بيني وبين أبي يعقوب الأَبيْوَرْدي، فذهبَ إلى أنه لا يقع الطلاق باطناًً، كما لو قال: أنت طالق إن حضتِ، فقالَت حِضتُ كاذبةً، فهي مصدّقة ظاهراً، ولا يقع الطلاق باطناً.
قال القفال: قلتُ: يقع الطلاق باطناًً، وكأنه معلّق بوجود لفظ المشيئة وقد وجد، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، حُكم بوقوع الطلاق وصُدّق، ولو كان معتبر الطلاق مشيئةَ القلب، لكان ذلك بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن دخل فلان الدار"، فقال فلان: دخلتُ، لم يصدق، فدلَّ على أن الطلاق معلق بالنطق بالمشيئة، وقد جرى قطعاً.
قال القاضي: لعل ما ذكره الأبيوردي أصح، وما استدلّ به الشيخ فيه نظر؛ من جهة أن تعليق الطلاق على مشيئتها فيه معنى التمليك، وهو يعتمد الإرادة ومحلها القلب، وليس في تعليق الطلاق على مشيئة زيدٍ معنى التمليك، بل هو فيه لفظ مجرد منه ظاهراً وباطناًً.
وهذا كلام لا يشفي الغليل؛ فإن لفظ المشيئة مشعر بإرادة القلب في الموضعين، ولا وقع لملكها نفسها لو طلقت في هذا المقام، فالوجه في الجواب أن مشيئة زيدٍ وإن تعلقت بإرادة قلبه، فلا مطلع على إرادته إلا من جهته، وما كان كذلك، فلا طريق فيه إلا التصديق، وليس كما لو قال: أنت طالق إن دخل فلان الدار؛ فإن الدخول يمكن أن يعرف لا من جهة الداخل.
ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فقالت: دخلت، لم تصدق. ولو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضتُ، صُدّقت؛ لأن الحيض لا يعرَف إلا من جهتها، كما ستأتي المسائل المعلّقة على الحيض.
ومساق كلام القاضي دليل على احتكامه على أبي يعقوب؛ فإن الطلاق إذا كان معلقاً على مشيئة زيدٍ، فقال: شئت، ولم يرد بقلبه- أن الطلاق يقع باطناً تعويلاً على اللفظ، وإنما لا يقع باطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة المرأة ولم تُرد بقلبها، وهذا تحكُّم محال.
وأبو يعقوب أفقه من أن يسلّم الفرق بين المسألتين، ولكن المسألة تدور على نكتة، وهي أن المرأة لو أرادت الطلاق بقلبها ولم تنطق بالمشيئة، فإن كان أبو يعقوب يزعم أن الطلاق يقع باطناً لتحقق إرادة القلب، ولكن لا يقع الحكم به لعدم الاطلاع، فيستدُّ كلامُه، وإن سلّم أن الطلاق لا يقع باطناًً، فيضعف ما ذكره، ونتبين أن متعلق الطلاق اللفظُ المجرد.
والذي أراه أن استدلال القفال حَرَّفه النقلة، والخلل يتسرع إلى النقل، سيّما في العلوم المعنوية، وعندي أن القفال ألزمَ الأبيوردي وقوع الطلاق بإرادة القلب، فقال أبو يعقوب: يقع، فقال القفال: يجب أن يصدّق إذا أخبر عن إرادة قلبه، هذا يجب أن يكون مجال الكلام، ولأبي يعقوب أن يرتكب مسألة الأجنبي، ويقول: يصدّق.
9179- فأما إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فأرادت بقلبها، ولم تنطق، فيجب القطع بأن الطلاق لا يقع باطناًً وظاهراً؛ فإنَّ شرطَ جوابها أن يكون على صيغة الأجوبة واتصالها بالخطاب، والكلام الجاري في النفس لا يكون جواباً، فكأن الزوج علق الطلاق بإرادة وجوابٍ، فإذا لم يتحقق الجواب، لم يقع الطلاق ظاهراً وباطناًً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق متى شئت، فهي كالأجنبي، فإن الجواب غير ملتمسٍ منها.
9180- وانتظم من مجموع ما ذكرناه أن التعليق إن كان على مشيئةٍ تقع جواباً، فالطلاق لا يقع بمجرّد إرادة القلب ظاهراً وباطناًً. وإن شاءت على الاتصال، وهي كارهة بقلبها، وظهر اللفظ منها، فهذا موضع تردّد الإمامين. وإن كان الطلاق معلقاً بالمشيئة من غير اشتراط صيغة الجواب، فإن وُجد لفظ المشيئة مع كراهية القلب، فالطلاق يحكم به ظاهراً وفي الباطن التردد الذي ذكرناه، وإن وجدت الإرادة باطناًً، ولم يوجد لفظ المشيئة، فمن لا يعتبر الباطن، يقول: لا يقع الطلاق باطناًً لعدم اللفظ، والأبيوردي قد يقول: يقع الطلاق بإرادة القلب باطناًً، إذا لم يجر في التعليق استدعاء جواب.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
فرع:
9181- ولو قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقد قدّمنا ترددَ الأئمة في ذلك، وميلُ الأكثرين إلى أن الطلاق لا يقع، وهذا قد يؤكّد مذهب الأبيوردي، فإنه لو كان التعويل على مجرد اللفظ، فلفظها منتظم كائن، وذهب ذاهبون إلى أن الطلاق يقع، كما لو قال للصبية: أنت طالق إن تكلمتِ أو قلت: شئتُ، فقالت: شئت.
ولو قال لمجنونةٍ: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، لم يقع الطلاق وفاقاً، والسبب فيه أنا وإن كنا نعتمد اللفظَ، فالشرط صدَر اللفظ ممّن يتصوّر أن يكون لفظه إعراباً عن مشيئة قلبه، ولا يثبت للمجنونة قصدٌ على الصحة، وليس هذا كما لو قال: إن تكلمتِ.
وإن قال: إن شئتِ، فقالت في سكرها: شئتُ، فهذا يخرّج على أن السّكران كالمجنون أو كالصاحي.
وكان شيخي يقطع بأنه لو قال للصبيّة: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت لا يقع شيء؛ فإنه لا عبارة لها في معاملات الأموال، وليس كما لو قال: إن شئت، فقالت: شئتُ، ففيه الخلاف المقدم.
وقال القاضي: قبول الصبيّة يجوز أن يكون بمثابة قبول المحجورة السّفيهة، حتى يقع الطلاق رجعياً، ولا يثبت المال. وهذا بعيد جداً.
ولو قال: طلّقي نفسك إن شئت، والتفريع على أن هذا تمليك يستدعي جوابها على الفور، فللزوج الرجوع قبل أن تجيب. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، وأراد الرجوع قبل أن تقول: "شئت"، فلا يقبل رجوعه، فإن هذا في ظاهره تعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع. كما لو قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ثم قال: رجعتُ عما قلت، فلا أثر لرجُوعه. وإذا اتصل الإعطاء، وقع الطلاق.
فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت، والتفريع على أن هذا تفويض، فلا يستدعي جوابَها على الفور، فلو ابتدرت وقالت: طلقت نفسي و شئت، فلا إشكال، ولو قالت: طلقت نفسي، فقال الزوج: رجعتُ-قبل أن تقول: شئت- فلا أثر لرجوعه؛ فإنه لم يبق إلا التعليق بالمشيئة، وقد ذكرنا أن التعليق لا يقع فيه الرجوع، ولو أراد الزوج أن يرجع قبل أن تقول: طلقت نفسي، نفذ رجوعه؛ فإن تفويض الطلاق يقبل الرجوع قبل أن تجيب؛ فقد اشتمل كلامه على ما يؤثر الرجوع فيه وعلى ما لا يؤثر الرجوع فيه. فانتظم الأمر في قبول رجوعه مرةً وردِّه
أخرى، كما وصفنا.
9182- ومما ذكره الأئمة في المشيئة أنه لو قال لامرأته: يا طالق إن شاء الله.
قالوا: يقع الطلاق، ويلغو الاستثناء؛ فإن الاستثناء إنما يعمل في الأخبار وصيغ الأفعال، فأما الأسامي، فلا عمل للاستثناء فيها.
وهذا فيه نظر؛ فإن الطالق وإن كان اسماً، فمعناه يعني طلقتك، ولو أراد أن يصرف اللفظ عن اقتضاء الإيقاع، لم يقبل منه أصلاً. وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء والثلاث تقع تفسيراً لمصدرٍ يُضمِّنه الطلاق، وهو متعلق الاستثناء، فالوجه عندنا صحة الاستثناء، وانتفاء الطلاق. وقد وجدت هذا في مرامز المحققين.
ولو قال: يا طالق أنت طالق ثلاثاًً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى الثلاث، ووقعت طلقة بقوله: يا طالق، وهذا بيّن.
9183- ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله. قال الأصحاب: لا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: يا طالق لا يعمل الاستثناء فيه، فانصرف إلى ما يقبل الاستثناء، وهو قوله: أنت طالق ثلاثاًً، وامتنع وقوعها، ولم نُوقع طلقة بقوله يا طالق بعد إيقاع الثلاث؛ لأنه وصفها بالطلاق لإضافة الطلاق الثلاث الذي أوقعها إليها وقد لغت الثلاث؛ فلغا الوصف الصادر عنها، ولم ينقطع حكم الاستثناء بما تخلل بينه وبين المستثنى عنه من قوله يا طالق، لأنه على وفق المستثنى عنه من جنسه، فالاستثناء إنما ينقطع إذا تخلل بينه وبين المستثنى عنه ما ليس من جنس النظم الذي يتسق فيه الاستثناء، فلو قال: طلقتك يا فاطمة إن شاء الله، أو أنت طالق ثلاثاًً ياحفصة إن شاء الله، فالاستثناء يعمل، ولايضرّ تخلل التسمية بين الاستثناء وبين المستثنى عنه.
وهذا فيه وجهان من النظر:
أحدهما: ما قدمناه من صرف الاستثناء إلى الطالق، فلا امتناع فيه، فيتّجه إذاً ربط الاستثناء بالطالق وقطعه عن الثلاث، وإذا انقطع الاستثناء عن الثلاث وقعنَ، فيبقى الطالق القابل للاستثناء في وضعه، والاستثناء مختص به، ولكن لا يعمل في هذه المسألة بعد أن طلقت ثلاثاً.
ولا يمتنع أن يقال: يلغو الاستثناء، لتخلل "الطالق"؛ فإنه في حكم اللّغو الذي لا حاجة إليه، وليس كالتسمية؛ فإنها تجري على سَداد الكلام وحسن النظم، والطالق في قوله: "أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله" فضلةٌ مستغنى عنها، فيُقْطع الاستثناء ويقع الثلاث على هذا التأويل.
ويتجه وجهٌ آخر- وهو صرف الاستثناء إلى الثلاث وإبطال الثلاث، فيبقى قوله: "يا طالق"، فتطلق طلقة بذلك، ولا حاصل لقول من قال: هذه الصفة صادرة عن الثلاث، بل هي مقالة مستقلة بنفسها، فيرتبط بها حكمها.
9184- ما سبق ثلاثة أوجه: أحدها: إنه لا يقع شيء وهو الذي حكاه القاضي.
والثاني: إن الثلاث تقع، وله معنيان.
والثالث: إنه يقع طلقة واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله يا طالق؛ فإنه لو قال هذا، بطلت الثلاث بالاستثناء، ويقع طلقة بقوله آخراً: "يا طالق".
9185- ولو قال: أنت طالق يا زانيةُ إن دخلت الدار، فالطلاق معلق بالدخول، ولا يضرّ تخلل ما جرى.
9186- ومما نذكره في خاتمة الفصل ونجمع فيه تراجم، أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن لم يشأ الله، فقد نص الشافعي على أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علقه بمحال؛ فإذا كان المحال لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن صعدت السّماء، فإذا استحال صعودها، انتفى الطلاق، وكذلك إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فعدم تعلق المشيئة بالطلاق مع وقوع الطلاق محال.
قال صاحب التلخيص: لو قلت: "يقع الطلاق"، لم أكن مُبعداً؛ فإنه خاطبها بالطلاق وقال بعده محالاً غيرَ ممكن في العقد، وما لا إمكان له لا تعليق به، وليس كالتعليق بصعود السماء؛ فإن الرب قادر على إقدار العبد عليه، وقد قدمنا خلافاً بين الأصحاب فيه إذا قال: "أنت طالق إن صعدت السماء" ورتبنا عليه جملاً تُوضِّح الغرض، وسنعود إليها في الفروع، إن شاء الله.
فانتظم فيه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق.
وحكى صاحب التقريب والشيخ أبو علي قولاً غريباً أن الطلاق يقع، ونقلا للشافعي نصاً أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، فهو مظاهر، وطرد المحققون هذا القولَ في الطلاق، والعقودِ جُمَع والحلول، وكلَّ لفظ حقه أن ينجزم، ورام بعض الأصحاب أن يفرق بين الظهار وغيرِه، ولست أرى لذكر ما لا أفهمه وجهاً.
وقال بعض المحققين: الاستثناء بعد الإقرار باطل، فإذا قال الرجل: لفلان علي عشرة إن شاء الله، فالعشرة ثابتة، والاستثناء باطل؛ فإنه أخبر ثم رام بآخر كلامه أن ينفي، فأما ما هو إنشاء، فشرطه أن يصح اللفظ فيه، فإذا قال: إن شاء الله، لم يأت بلفظ صحيح، فلا يصلح اللفظ المضطرب للإثبات.
وكل ذلك خبطٌ والصّحيح أن التعليق بالمشيئة يفنِّد جميعَ ما تقدم من إقرار وإنشاء، وحَل وعَقْد، وطلاق وظهار.
ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، فالنص أنه لا يقع، وخَرَّج صاحب التلخيص الوقوع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالصحيح أن الطلاق لا يقع، وقد أطنبنا
فيه.
وفي المسألة قولٌ آخر: إنه يقع، زعم القاضي أنه القياس، وهو غفلة منه، والصحيح أنه لا يقع. قال الصّيدلاني: كان القفال لا يذكر غيره.
9187- ومما نذكره متصلاً بالفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، ثم كما تم اللفظ بدا له أن يقول: "إن شاء الله تعالى"، فقاله على الاتصال، ولكنه لم ينشىء اللفظ على قصد أن يعقبه بالاستثناء، قال أبو بكر الفارسي: لا خلاف أن الطلاق يقع؛ فإن الاستثناء أنشاه بعد وقوع الطلاق، وهذا المعنى ظاهر، لا مناكرة فيه، ولكنه جمعَ مسائلَ عويصةً، وادّعى الإجماع فيها، فلم تسلم له دعوى واحدةٍ منها، وخالفه الأصحاب في جميعها، فكذا حتى ذكروا خلافاً في هذه المسألة، وكان شيخي يَعْزيه إلى الأستاذ أبي إسحاق، ورأيته لغيره.
ولست أرى له وجهاً؛ فإن الطلاق يقع مع تمام اللفظ، فإنشاء الاستثناء بعده تداركُ طلاقٍ واقعٍ. وأبو بكر ما نقل الإجماع في المسائل، ولكن ذكرَ مسائلَ غريبةً تستند إلى معانٍ ظاهرة لا مُدرك فيها إلا المعنى، ولا ينقدح فيها إلا وجهٌ واحد، وهذه المسألة من أظهرها.
ثم ما ذكره يجري في التعاليق، فلو قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن دخلت الدار، فقاله، فالطلاق يتنجز على ما ذكر، والتعليق بعده طائحٌ.
ومن خالف في مسألة الاستثناء يخالف في هذه. قال شيخي عن القفال: إذا قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فلا يقع شيء، وينصرف الاستثناء إلى جميع الكلام، والواحدة التي قدّمها معادة في الثلاث، فانصرف الاستثناء إلى جميع الكلام.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء.
ولو قال: أنت طالق واحدةً وثلاثاً-بالواو العاطفة- إن شاء الله، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الاستثناء يرجع إلى الجميع؛ فإنه وإن عطف، فلا مزيد على الثلاث، وإذا تعلقت الثلاث بالمشيئة، لم يقع شيء.
والوجه الثاني- أن الطلقة الأولى تقع، والواو فاصلة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً وثلاثاًً إن شاء الله، فوجهان:
أحدهما: لا يقع شيء.
والثاني: يقع الثلاث، والواو فاصلة مانعة من انعطاف الاستثناء.
ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، فهذا مخرَّج على أنا هل نجمع ما يفرقه من الصيغ؟ فإن لم نجمع، وقعت الطلقة الأولى، وإن جمعنا، لم يقع شيء.